الاتفاق هو الذي أخرج العباس للقاء محمد، وأن هذا الاتفاق هو الذي جمع بين العباس وأبي سفيان، وأن أبا سفيان كان قد وثق، منذ ذهب إلى المدينة ليمدّ في عهد الحديبية ورجع صفر اليدين، بأن لا سبيل لقريش إلى ردّ محمد، وأيقن أنه إذا مهد للفتح السبيل فستبقى له رياسته في مكة ومقامه الكبير فيها، وأن الذي ربما كان وقع عليه الاتفاق من ذلك لم يتعدّ محمدا والأشخاص الذين يعنيهم الأمر، بدليل ما همّ به عمر من قتل أبي سفيان؟ من المغامرة أن نحكم. لكنا نستطيع أن نقرر- مطمنة نفوسنا- أنه سواء أكانت المصادفة هي التي ساقت ذلك كله أم أن شيئا من الاتفاق قد وقع عليه، فالحالان تدلّان على دقة محمد ومهارته في كسب أكبر موقعة في تاريخ الإسلام من غير حرب ومن غير إراقة دماء.
لم يمنع إسلام أبي سفيان محمدا أن يتخذ لدخول مكة كل ما لديه من أهبة وحذر. وإذا كان النصر بيد الله يؤتيه من يشاء، فإن الله لا يؤتي النصر إلا من أعدّ له كل عدّته، واحتاط لكل دقيقة وجليلة قد تقف في سبيله. لذلك أمر أن يحبس أبو سفيان بمضيق الوادي عند مدخل الجبل إلى مكة، حتى تمرّ به جنود المسلمين فيراها ليحدث قومه بها عن بينة، ولكي لا يكون في إسراعه إليهم خيفة مقاومة أيّا كان نوعها. ومرّت القبائل بأبي سفيان، فما راعه منها إلا الكتيبة الخضراء يحيط بمحمد فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد. فلما عرف أبو سفيان أمرهم قال: يا عباس! ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة. والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما! ثم انطلق إلى قومه يصيح فيهم بأعلى صوته: يا معشر قريش! هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
وسار محمد في الجيش، حتى إذا انتهى إلى ذي طوى، ورأى من هناك مكة لا تقاوم استوقف كتائبه، ووقف على راحلته، وانحنى لله شاكرا، أن فتح الله عليه مهبط الوحي ومقرّ البيت الحرام ليدخله والمسلمين آمنين مطمئنين. وفيما هو كذلك طلب أبو قحافة، ولم يكن قد أسلم كابنه، إلى حفيدة له أن تظهر به على أبي قبيس، وكان قد كفّ بصره. فلما ارتفعت به الجبل سألها ما ترى؟ قالت: أرى سوادا مجتمعا. قال: تلك الخيل. ثم قالت: قد والله انتشر السواد. فقال: تلك الخيل دفعت إلى مكة، فأسرعي بي إلى بيتي. ولم يصل إلى بيته حتى كانت الخيل قد زحفت وتلقّته قبل بلوغه إيّاه ...
شكر محمد الله أن فتح عليه مكة، ولكنه ظلّ مع ذلك متّخذا حذره؛ فقد أمر أن يفرق الجيش أربع فرق، وأمرها جميعا ألّا تقاتل وألا تسفك دما إلا إذا أكرهت على ذلك إكراها واضطرّت إليه اضطرارا. وجعل الزّبير بن العوّام على الجناح الأيسر من الجيش وأمره أن يدخل مكة من شمالها، وجعل خالد بن الوليد على الجناح الأيمن وأمره أن يدخل من أسفل مكة، وجعل سعد بن عبادة على أهل المدينة ليدخلوا مكة من جانبها الغربيّ. أما أبو عبيدة بن الجرّاح فجعله محمد على المهاجرين، وسار وإيّاهم ليدخلوا مكة من أعلاها في حذاء جبل هند، وفيما هم يتأهبون سمع بعضهم سعد بن عبادة يقول: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة ... » . وفي ذلك من نقض أمر النبي ألّا يقتل المسلمون من أهل مكة ما فيه. لذلك رأى النبيّ حين بلغه ما قال سعد أن يأخذ الراية منه وأن يدفعها إلى ابنه قيس، وكان رجلا ضخما، لكنه كان أهدأ من أبيه أعصابا.
دخلت الجيوش مكة فلم يلق منها مقاومة إلا جيش خالد بن الوليد، فقد كان يقيم في هذا الحيّ من