وعرفت قريش بمقدم محمد وأصحابه، فجلت عن مكة، نزولا على صلح الحديبية، وصعدت في التلال المجاورة لها حيث ضربت الخيام، وحيث أوى منهم من أوى إلى فيء الشجر. ومن فوق أبي قبيس وحراء، ومن فوق كل مرتفع مطل على مكة، أطلّ هؤلاء المكّيون ينظرون بعيون كلها تطلع إلى الطريد وأصحابه داخلين بلد البيت الحرام لا يصدّهم عنه صادّ، ولا يحول بينهم وبينه حائل.
وانحدر المسلمون من شمال مكة وقد أخذ عبد الله بن رواحة بخطام القصواء، وأحاط كبار الصحابة بالنبيّ عليه السلام. وسارت الصفوف من خلفهم ما بين راجل ومقتعد غارب بعيره. فلما انكشف البيت الحرام أمامهم، انفرجت شفاه المسلمين جميعا عن صوت واحد منادين: لبّيك لبّيك! متوجهين بالقلوب والأرواح إلى وجه الله ذي الجلال، محيطين في هالة من رجاء وإكبار بهذا الرسول الذي بعثه الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. والحق أنه كان مشهدا فذّا من مشاهد التاريخ التي اهتزت لها أرجاؤه، والتي جذبت إلى الإسلام قلوب أشد المشركين صلابة في وثنيته وفي عناده. وعلى هذا المشهد الفذّ كانت تقع عيون أهل مكة. وهذا الصوت المنبعث من القلوب يدوّي: لبّيك! لبّيك، كان يخترق آذانهم فيهزّ قلوبهم هزّا. ولما بلغ الرسول المسجد إضطجع (?) بردائه وأخرج عضده اليمنى ثم قال: اللهم ارحم امرآ أراهم اليوم من نفسه قوّة. ثم استلم الركن عند الحجر الأسود وهرول وهرول أصحابه معه، فلمّا استلم الركن اليمانيّ مشى حتى استلم الحجر الأسود مهرولا من جديد ثلاثة أطواف ومشى سائرها. والألفان من المسلمين يهرولون كلما هرول، ويمشون كلما مشى. وقريش تنظر من فوق أبي قبيس، فيأخذها لهذا المنظر البهر (?) من كل مكان، وتشهد أنها، وكانت تحدّث عن محمد وأصحابه أنهم في عسر وشدّة وجهد، قد رأت ما يمحو من أفئدتها كل وهم بوهن محمد وأصحابه. وفي حماسة هذه الساعة أراد عبد الله بن رواحة أن يقذف في وجه قريش بصيحة حرب؛ فصدّه عمر، وقال له الرسول: «مهلا يابن رواحة وقل لا إله إلا الله وحده، نصر عبده وأعزّ جنده. وخذل الأحزاب وحده» أو كما قال؛ فنادى بها ابن رواحة بأعلى صوته، وردّدها المسلمون من بعده، فتجاوبت بأصدائها جوانب الوادي، وارتفعت رهبتها إلى قلوب الذين تسنّموا الجبال حوله.
ولما أتمّ المسلمون الطواف بالكعبة انتقل محمد على رأسهم إلى الصفا والمروة فركب بينهما سبعا، كما كان يفعل العرب من قبل، ثم نحر الهدي عند المروة وحلق رأسه وأتمّ بذلك فرائض العمرة. ولما كان الغد دخل محمد إلى الكعبة وبقي بها حتى صلاة الظهر. ولقد كانت الأصنام ما تزال تعمرها. مع ذلك علا بلال سقفها وأذّن في الناس لصلاة الظهر عندها. وصلى النبي يومئذ بألفين من المسلمين صلاة الإسلام عند البيت الذي كان يصدّ من سبع سنين عن الصلاة عنده. وأقام المسلمون بمكة ثلاثة الأيام المفروضة في عهد الحديبية، وقد خلت أمّ القرى من أهلها. فجلس المسلمون خلالها لا يصيبهم فيها أذى ولا يعترضهم أحد بسوء.
والمهاجرون منهم يزورون دورهم ويزيرون أصحابهم من الأنصار إيّاها، وكأنما هم جميعا أصحاب هذا البلد الأمين؛ وكلهم يسير سيرة الإسلام يؤدّي إلى الله كل يوم صلواته فيقتل في نفسه غرورها، ويعين قويهم