ركب المسلمين إلى مكة- جلاء قريش عن مكة- نزول المسلمين بها- طواف محمد وهرولته- زواج محمد بن ميمونة- رغبته إلى قريش أن يعرس بمكة ورفضهم ذلك- إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة.
استدار العام بعد الحديبية، وأصبح محمد وأصحابه في حلّ بعهدهم مع قريش من الدخول إلى مكة ومن زيارة الكعبة. لذلك نادى الرسول في الناس كي يتجهزوا للخروج إلى عمرة القضاء بعد أن منعوا من قبل منها. ومن اليسير عليك أن تقدّر كيف أقبل المسلمون يلبّون هذا النداء، ومنهم المهاجرون الذين تركوا مكة منذ سبع سنوات، ومنهم الأنصار الذين كانت لهم مع مكة تجارة وبهم إلى زيارة البيت الحرام هوى، لذلك زاد الركب إلى ألفين بعد أن كان ألفا وأربعمائة في العام الذي سبقه، وتنفيذا لعهد الحديبية لم يحمل أحد من هؤلاء الرجال سلاحا إلا سيفا في قرابه. ولكن محمدا كان يخشى الغدر دائما. فجهّز مائة فارس جعل على رأسهم محمد بن مسلمة، وبعثهم طليعة له على ألّا يتخطّوا حرم مكة، وأن ينحدروا إذا هم بلغوا مرّ الظّهران إلى واد قريب منها. وساق المسلمون الهدي أمامهم ستين ناقة وقد تقدّمهم محمد على ناقته القصواء، وساروا من المدينة يحدوهم شغف أيّ شغف بالدخول إلى أمّ القرى والطواف ببيت الله، ويرقب كل واحد من المهاجرين أن يرى البقعة التي ولد فيها، والبيت الذي شبّ عن الطوق بين جدرانه، والأصحاب الذين غادروا، وأن يتنسم عرف هذا الوطن المقدّس وأن يلمس في إجلال وإعزاز ثرى القرية المباركة الميمونة التي أنجبت الرسول والتي نزل فيها أوّل ما نزل من الوحي. وتستطيع أن تتصوّر هذا الجيش من المسلمين وعدتهم ألفان يغذّون سيرهم تطفر (?) أمامهم قلوبهم وترقص جذلا أفئدتهم؛ فإذا أناخوا جعل كلّ منهم يقصّ على أصحابه آخر عهده بمكة أو أيّام طفولته بها، أو يحدّث عن أصدقائه فيها، أو عن المال الذي ضحى به في سبيل الله عند هجرته منها.
تستطيع أن تتصور هذه المظاهرة الفذة من نوعها، يزجي سيرها الإيمان، ويجذب أصحابها إليه بيت جعله الله مثابة للناس وأمنا. إنك إذا لترى بعين بصيرتك أيّ طرب كان يستخفّ هؤلاء الذين حيل بينهم وبين هذا الفرض المقدّس إذ يسيرون إليه ليدخلوا مكة آمنين، ومحلّقين رؤسهم ومقصّرين، لا يخافون.