سوى ذلك كما كانوا من قبل أو على مقربة منه. وكثيرا ما كان أحدهم يحب أن يدخل على النبي بيته، وأن يمكث عنده وأن يتحدث إليه وأن يتحدث إلى نسائه، وقد كانت مهامّ النبوة العظمى أكبر من أن تدع محمدا يشغل نفسه بحديث هؤلاء الذين يجيئون إليه، والذين يتحدثون إلى نسائه وما ينقل نساؤه إليه من أحاديثهم، لذلك أراد الله أن يخلي نبيه من هذه المشاغل الصغرى، فأنزل عليه الآيات: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً) (?) .
وكما نزلت هذه الآية حديثا للمؤمنين وإرشادا لهم إلى واجبهم إزاء النبيّ وأزواجه، نزلت الآيتان الآتيتان كذلك موجهتين إلى أزواج النبي في هذا الشأن نفسه. قال تعالى: (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى. وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (?) .
هذا هو التمهيد الإجتماعي الجديد الذي أراده الإسلام للجماعة الإنسانية. أقام أساسه على تغيير نظرة الجماعة إلى ما بين الرجل والمرأة من صلات، وأراد أن يمحو من النفوس تسلّط فكرة الجنس واعتبارها وحدها المتغلبة على كل اعتبار، وأراد بذلك أن يوجه الجماعة وجهتها الإنسانية العليا التي لا تنكر على الإنسان استمتاعه بالحياة استمتاعا لا يضعف من حرّيته في أن يريد- ومن باب أولى لا يسلبه هذه الحرية في أن يريد- والتي تجعل من الإنسان صلة ما بين الكائنات جميعا، فيرتفع به من مراتب زراعة الأرض ومن الصناعة ومن تجارة الحياة أيّا كانت، لتسمو به إلى مجاورة القدّيسين والاتّصال بالملائكة المقرّبين. وقد جعل الإسلام من الصوم والصلاة والزكاة وسائل لهذا السموّ؛ بما تنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وبما تطهر النفس والقلب من شوائب الخضوع لغير الله، وبما تقوّي من أسباب الأخوّة بين المؤمنين، ومن الاتّصال بين الإنسان وسائر ما في الكون.
هذا التنظيم للحياة الاجتماعية رويدا رويدا، تمهيدا للانتقال العظيم الذي أعدّ الإسلام له الإنسانية، لم يمنع قريشا والعرب أن تتربّض بمحمد الدوائر، ولم يمنع محمدا أن يكون دائم الحذر، سريعا إلى النشاط لإلقاء الرعب في قلوب خصومه عند الحاجة. من ذلك أنه، بعد ستة أشهر من القضاء على بني قريظة- شعر بشيء من الحركة في ناحية مكة، ففكر في أن ينتقم لخبيب بن عدي وأصحابه ممن قتل بنو لحيان عند ماء الرّجيع منذ سنتين. على أنه لم يجهر بقصده خيفة أن يتّخذ العدو الحيطة لنفسه. فأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرّة، فأخذ قوّاته ويممّ بها شمالا. فلما اطمأن إلى أن قريشا وجيرانها لم يبق منهم من يفطن لمقاصده،