وهو بتأليبه قريشا وغطفان وتحزيبه العرب كلها لقتال محمد جسّم العداوة بين اليهود والمسلمين، وجعل هؤلاء يعتقدون أن بني إسرائيل لا تطيب نفوسهم إلا باستئصال محمد وأصحابه. وهو الذي حمل بني قريظة من بعد ذلك على نقض عهدها والخروج من حيادها، ولو أنها بقيت عليه لما أصابها من الشرّ شيء. وهو الذي دخل حصن بني قريظة بعد ارتحال الأحزاب ودعاهم لمواجهة المسلمين والدفاع عن أنفسهم بمقاتلتهم، ولو أنهم نزلوا على حكم محمد منذ اليوم الأوّل واعترفوا بخطئهم في نقض عهدهم، لما أهدرت دماؤهم وضربت أعناقهم.
لكن العداوة بلغت من التأصّل في نفس حييّ وانتقلت منه إلى نفوس بني قريظة حدّا جعل سعد بن معاذ نفسه، وهو حليفهم، يؤمن بأنهم إن أبقى على حياتهم لم تهدأ لهم نفس حتى يؤلّبوا الأحزاب من جديد، وحتى يجمعوا العرب لقتال المسلمين، وحتى يقتلوهم عن آخرهم إن ظفروا بهم. فالحكم الذي أصدره على قسوته إنما أصدره متأثرا بالدفاع عن النفس، معتبرا بقاء اليهود أو زوالهم مسألة حياة أو موت بالنسبة للمسلمين.
وقسم النبيّ أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين بعد أن أخرج منها الخمس. قسمها بأن كان للفارس سهمان، ولفرسه سهم، وللراجل سهم. وكانت الخيل يوم قريظة ستة وثلاثين فرسا. ثم بعث سعد بن زيد الأنصاريّ بطائفة من سبايا بني قريظة إلى نجد، فابتاع بها خيلا وسلاحا زيادة في قوّة المسلمين الحربية.
وكانت ريحانة إحدى سبايا بني قريظة قد وقعت في سهم محمد، فعرض عليها الإسلام فأصرّت على يهوديتها، وعرض عليها أن يتزوّجها فقالت: بل تتركني في ملكك فهو أخفّ عليّ وعليك. ولعل حرصها على اليهودية ورفضها الزواج يرجعان إلى عصبيتها لقومها، وما كان باقيا في نفسها من كراهية للمسلمين ولنبيّهم. ولم يتحدّث أحد عن جمال ريحانة ما تحدّثوا عن جمال زينب بنت جحش، وإن ذكر بعضهم أنها كانت جميلة وسيمة. وقد اختلفت السير فيها: أضرب عليها الحجاب كما ضرب على نساء النبيّ، أم أنها ظلّت كسائر نساء العرب يومئذ لم يضرب عليها حجاب. وبقيت ريحانة في ملكه حتى ماتت عنده.
وطّدت غزوة الأحزاب، ووطّد القضاء على بني قريظة، للمسلمين في المدينة، فلم يبق للمنافقين فيها صوت قطّ. وذهبت العرب كلها تتحدث بقوّة المسلمين وسلطانهم، وبمقام محمد وقوّته ورهبة جانبه. ولكن الرسالة لم تكن للمدينة وحدها بل كانت للعالم بأسره. فما يزال على النبي وأصحابه إذا أن يمهّدوا لكلمة الله، وأن يدعوا الناس لدينه الحق، وأن يصدّوا عنه كل معتد عليه. وهذا ما فعلوا.