السبيل، واقتسموا الباقي ورجعوا إلى المدينة ظافرين وقد أعادوا إلى النفوس من هيبة المسلمين شيئا مما ضيّعت أحد. على أن أبا سلمة لم يعش بعد السرية طويلا؛ فقد كان جرح بأحد ولم يكن التئام جرحه إلا ظاهرا. فلما جهد نفسه نغر الجرح (?) وظل به حتى قضي عليه.
واتّصل بمحمد من بعد ذلك أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلّي مقيم بنخلة أو بعرنة، وأنه يجمع الناس ليغزوه؛ فدعا إليه عبد الله بن أنيس وبعثه يتجسّس حتى يقف على جليّة الخبر، وسار عبد الله حتى لقي خالدا وهو في ظعن يرتاد لهن منزلا. فلما انتهى إليه سأله خالد: من الرجل؟ فأجابه: أنا رجل من العرب سمع بك وبجمعك لمحمد فجاءك لذلك. فلم يخف خالد أنه يجمع الجمع ليغزو المدينة. ولمّا رآه عبد الله في عزلة من الرجال وليس معه إلا أولئك النسوة استدرجه للمسير معه، حتى إذا أمكنته منه الفرصة حمل عليه بالسيف فقتله، ثم ترك ظعائنة منكبّات عليه يبكينه، وعاد إلى المدينة فأخبر الرسول الخبر. وهدأت بنو لحيان من هذيل بعد موت زعيمها زمنا، ثم فكّرت تحتال لتثأر له.
في هذا الحين وفد رهط من قبيلة تجاورهم إلى محمد يقولون له: إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك يعلموننا شرائعه ويقرئوننا القرآن. وكان محمد يبعث من أصحابه كلما دعي إلى ذلك ليؤدّوا هذه المهنة الدينية السامية، وليدعوا الناس إلى الهدى ودين الحق، وليكونوا لمحمد وأصحابه عونا على خصومهم وأعدائهم، على نحو ما رأيت من ذلك كله فيمن بعثهم إلى المدينة على أثر العقبة الكبرى. لذلك بعث ستة من كبار أصحابه خرجوا مع الرهط وساروا معهم. فلمّا كانوا جميعا على ماء لهذيل بالحجاز بناحية تدعى الرّجيع، غدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلا. ولم يرع المسلمين الستة وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم؛ فأخذ المسلمون أسيافهم ليقاتلوا. لكن هذيلا قالت لهم: إنّا والله ما نريد قتلكم؛ ولكنا نريد أن نصيب لكم مكة، ولكم عهد الله وميثاقهن ألّا نقتلكم. ونظر المسلمون بعضهم إلى بعض وقد أدركوا أن الذهاب بهم إلى مكة فرادى إنما هو المذلّة والهوان وما هو شرّ من القتل، فأبوا ما وعدت هذيل، وانبروا لقتالها، وهم يعلمون أنهم في قلة عددهم لا يطيقونه. وقتلت هذيل ثلاثة منهم ولان الثلاثة الباقون، فأمسكت بتلابيبهم وأخذتهم أسرى، وخرجت بهم إلى مكة تبيعهم فيها. فلمّا كانوا في بعض الطريق انتزع عبد الله بن طارق أحد المسلمين الثلاثة يده من غلّ الأسر ثم أخذ سيفه؛ فاستأخر عنه القوم وطفقوا يرجمونه بالحجارة حتى قتلوه أمّا الأسيران الآخران فقدمت بهما هذيل مكة وباعتهما من أهلها. باعت زيد بن الدثنّة لصفوان بن أميّة الذي اشتراه ليقتله بأبيه أميّة بن خلف؛ فدفع به إلى مولاه نسطاس ليقتله. فلما قدّم سأله أبو سفيان: أنشدك الله يا زيد، أتحبّ أن محمدا الآن عندنا في مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟ قال زيد.
والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي! فعجب أبو سفيان وقال: ما رأيت من الناس أحدا يحبّه أصحابه ما يحب أصحاب محمد محمدا. وقتل نسطاس زيدا، فذهب شهيد أمانته لدينه ولنبيه، أمّا خبيب فحبس حتى خرجوا به ليصلبوه؛ فقال لهم: إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا؛ فأجازوه فركع ركعتين أتمّهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم وقال: أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طوّلت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة. ورفعوه إلى خشبة؛ فلمّا أوثقوه إليها نظر إليهم بعين