المسلمون واليهود- غزوة بني قينقاع- جلاء اليهود عن المدينة- قريش تتحرك- غزوة السويق- القبائل تتحرك.
فتفر- هزيمة صفوان بن أمية.
تركت بدر بمكة من عميق الأثر ما رأيت. تركت الحرص على الثأر من محمد والمسلمين يوم تتهيأ فرصة الثأر. لكن أثرها بالمدينة كان أوضح وأكثر اتصالا بحياة محمد والمسلمين معه. فقد شعر اليهود والمشركون والمنافقون بعد بدر بمزيد قوّة المسلمين؛ ورأوا هذا الرجل الأجنبيّ الذي وفد عليهم منذ أقلّ من عامين فارّا مهاجرا من مكة، يزداد سلطانا وبأسا، ويكاد يكون صاحب الكلمة في أهل المدينة جميعا لا في أصحابه وحدهم. وكان اليهود، على ما رأيت، قد بدأ تذمرهم من قبل بدر وبدأت مناوشاتهم المسلمين، حتى لكأن ما بين الفريقين من عهد الموادعة هو الذي حال في أكثر من حادث دون الانفجار. لذلك ما كاد المسلمون يعودون من بدر معتزين بالنصر حتى جعلت طوائف المدينة الآخرى تتغامز وتأتمر، وحتى بدأت تغري بهم وترسل الأشعار في التحريض عليهم. بذلك انتقل ميدان الثورة من مكة إلى المدينة، وانتقل من الدين إلى السياسة. فلم تبق دعوة محمد إلى الله هي وحدها التي تحارب، بل كان كذلك سلطانه ونفوذ أمره موضع الرهبة والخوف، وكان لذلك سبب الائتمار به والتفكير في اغتياله، ولم يكن محمد لتخفي عليه من ذلك كله خافية؛ بل كان يقع على أخباره جميعا ويتصل بعلمه كل ما يدبّر ضدّه، وجعلت النفوس من جانبي المسلمين واليهود تمتلئ بالغلّ والضغينة شيئا فشيئا، رويدا رويدا، وجعل كل فريق يتربص بصاحبه الدوائر.
وكان المسلمون إلى حين نصرهم الله ببدر يخشون مواطنيهم من أهل المدينة، فلا تبلغ منهم الجرأة إلى الاعتداء على من يعتدي على مسلم منهم. فلما عادوا منتصرين أخذ سالم بن عمير نفسه بالقضاء على أبي عفك (أحد بني عمرو بن عوف) ؛ لأنه كان يرسل الأشعار يطعن بها على محمد وعلى المسلمين، ويحرّض بها قومه على الخروج عليهم؛ وظل كذلك بعد بدر يغري بهم الناس. فذهب إليه سالم في ليلة صائفة كان أبو عفك نائما فيها بفناء داره، فوضع سالم السيف على كبده حتى خشّ في الفراش. وكانت عصماء بنت مروان (من بني أميّة بن زيد) تعيب الإسلام وتؤذي النبي وتحرض عليه، وظلت كذلك إلى ما بعد بدر فجاءها يوما عمير بن عوف