ولا يفسّر أخذ مؤرخي محمد به إلا أنهم لم يترجموا لمحمد إلا في أواخر القرن الثاني للهجرة، وأنهم كانوا متأثرين بالمغازي التي حدثت بعد ذلك منذ بدر الكبرى، فاعتبروا ما سبقها من مناوشات يقصد بها إلى غير الحرب مغازي تضاف إلى حروب المسلمين أيّام النبي.
والظاهر أن كثيرين من المستشرقين قد فطنوا لهذا الاعتراض وإن لم يشيروا في كتبهم إليه. وإنما يدعونا إلى الظن بفطنتهم له أنهم، مع مجاراتهم مؤرخي المسلمين في قصد المهاجرين ومحمد على رأسهم إلى حرب أهل مكة منذ الساعة الأولى من مقامهم بالمدينة، قد أشاروا إلى أن هذه السرايا الأولى إنما كان يقصد بها إلى نهب تجارة القوافل، فإن النهب كان بعض طباع أهل البادية، وإن أهل المدينة إنما أغرتهم الغنيمة والسّلب باتباع محمد على خلاف عهدهم في العقبة، وهذا كلام مردود، لأن أهل المدينة كأهل مكة لم يكونوا أهل بادية يعيشون على السلب والنهب، وأنهم فوق ذلك كان في طبعهم ما في طبع من يعيشون على الزراعة من حب الاستقرار مما يجعلهم لا يتحركون إلى قتال إلا لدافع قويّ. أمّا المهاجرون فكان من حقهم أن يستخلصوا من أيدي قريش ما أخذت من أموالهم؛ لكنهم لم يستعجلوا ذلك قبل بدر، فلم يكن هو الدافع لإرسال السرايا والغزوات الأولى. ثم إن القتال لم يشرع في الإسلام ولم يقم به محمد وأصحابه لهذه الغاية البدوية التي يتوهم المستشرقون، وإنما شرع وقام به محمد وأصحابه حتى لا يفتنهم عن دينهم أحد، وحتى يكون لهم من حرية الدعوة ما يشاؤن. وسنرى من بعد تفصيل هذا والدليل عليه. وعندئذ يزداد أمامنا وضوحا أن محمدا إنما كان يرمي من المعاهدات التي عقد إلى تعزيز المدينة، حتى لا يتطرق إلى قريش فيها مطمع، فلا يحاولوا إعنات المسلمين فيها كما حاولوا من قبل إعادتهم من بلاد الحبشة؛ وأنه كان لا يأبى في الوقت نفسه أن يعاهد قريشا على أن تترك حرية الدعوة لدين الله طليقة، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.
ولعل محمدا رمى من وراء هذه السرايا والرحلات المسلحة إلى غرض آخر. لعله رمى إلى إرهاب اليهود المقيمين في المدينة وعلى مقربة منها. فقد رأيت أن هؤلاء اليهود بعد أن طمعوا أوّل وصول محمد إلى المدينة في ضمه إليهم، وبعد أن وادعوه وعاهدوه على حريّة الدعوة للدين، وعلى إقامة شعائره وفرائضه. لم يلبثوا، حين رأوا أمر محمد يستقر ولواء الإسلام يسمو ويرتفع، أن بدؤا يقبلون للنبيّ ظهر المجنّ ويعملون للوقيعة به.
ولئن قعدوا عن مصارحته بالعداوة خشية أن تتعرض مصالحهم التجارية للارتباك إذا نشبت بين أهل المدينة حرب أهلية، أو محافظة على عهد موادعتهم، لقد لجأوا إلى كل وسيلة للدس بين المسلمين ولإثارة البغضاء بين المهاجرين والأنصار، ولإيقاظ الأحقاد الماضية بين الأوس والخزرج بذكر يوم بعاث ورواية ما قيل من الشعر فيه.
وقد فطن المسلمون لدسّهم ولمبالغتهم فيه، وبلغوا من ذلك أن حشروهم في زمرة المنافقين، بل اعتبروهم شرّا منهم، فأخرجوهم من المسجد إخراجا عنيفا، وأبوا عليهم أن يجلسوا إليهم أو أن يتحدّثوا معهم؛ وانتهى النبيّ عليه السلام إلى الإعراض عنهم بعد إذ حاول إقناعهم بالحجة والدليل، وطبيعيّ لو ترك حبل يهود المدينة هؤلاء على غاربهم، أن يستفحل أمرهم ويثيروا الفتنة التي يسعون لإثارتها. وليس يكفي في عرف الدقّة السياسية التحذير منهم والتنبيه إلى كيدهم، بل لا بد من إشعارهم أن للمسلمين من القوة ما يمكنهم من إخماد أية فتنة تقوم، ومن القضاء على أسبابها واجتثاث أصولها. وخير وسيلة لهذا الإشعار إرسال السرايا والقيام بالمناوشات الحربية في مختلف الأنحاء على ألا تتعرّض قوّات المسلمين لهزيمة تطمع اليهود كما