الدم؛ فلم يكن من اليسير عليهم أن يقتل بعضهم بعضا وأن يتعرض هؤلاء وأولئك لطلب الثأر، وأن يعرّضوا مكة والمدينة جميعا لحرب أهلية استطاع المسلمون والوثنيون اتقاءها بمكة ثلاث عشرة سنة متتابعة من يوم بعث محمد إلى يوم هجرته. والمسلمون كانوا يعلمون أن بيعة العقبة كانت بيعة دفاعيّة تعهد فيها الأوس والخزرج بحماية محمد، ولم يعاهدوه ولا عاهدوا أحدا ممن معه على العدوان. فليس من اليسير مع هذا كله التسليم مع المؤرخين، الذين لم يبدؤا بكتابة تاريخ النبي إلا بعد قرابة قرنين من وفاته، بأن هذه السرايا والرحلات الأولى كان يقصد بها القتال بالفعل. فلا بد لها إذا من تأويل أقرب إلى العقل وأكثر اتفاقا مع سياسة المسلمين في هذه الفترة الأولى من مقامهم بالمدينة، وأدق تمشيا مع سياسة الرسول التي كانت قائمة يومئذ على قواعد التفاهم والاتفاق مع مختلف القبائل، لكفالة حرية الدعوة الدينية من ناحية، وكفالة حسن المعاملة والجوار من ناحية أخرى.
والراجح عندي أن هذه السرايا الأولى إنما قصد بها إلى إفهام قريش أن مصلحتهم تقتضيهم التفاهم مع المسلمين من أهلهم الذين اضطّروا إلى الجلاء عن مكة بسبب ما عانوا من الاضطهاد تفاهما يقي الطرفين شرور العداوة والبغضاء ويكفل للمسلمين حرية الدعوة إلى الدين، ولأهل مكة سلامة تجارتهم في طريقها إلى الشام.
وقد كانت هذه التجارة التي تبعث بها مكة والطائف جميعا، والتي كانت تجيء إلى مكة من بلاد الجنوب، تجارة واسعة النطاق، حتى لقد كانت بعض القوافل تسير في ألفي بعير، حمولتها تزيد على خمسين ألف دينار. كانت صادرات مكة السنوية، على ما قدّرها المستشرق «سبرنجر» توازي مائتين وخمسين ألفا من الدنانير، أي نحو مائة وستين ألف جنيه ذهبا. فإذا أيقنت قريش تعرّض هذه التجارة للخطر آتيا من أبنائها من الذين هاجروا إلى المدينة دعاها ذلك إلى التفكير في التفاهم معهم تفاهما طمع المسلمون في أن يكفل لهم ما كانوا يطمحون إليه من حرية الدعوة إلى دينهم، ومن حرية الدخول إلى مكة والطواف ببيتها العتيق. ولم يكن مثل هذا التفاهم ممكنا ما لم تقدر قريش قوة المهاجرين من أبنائها على الإيقاع بها وإيصاد طريق التجارة في وجهها. وهذا هو ما يفسر عندي رجوع حمزة ومن معه من المهاجرين الذين لقوا أبا جهل بن هشام عند ساحل الجزيرة لأول ما حجز مجديّ بن عمرو الجهني بينهما، كما يفسر كثرة اتجاه المسلمين بسراياهم إلى طريق تجارة مكة في عدد لا يسهل معه تصوّرهم مقدمين على الحرب. وهذا كذلك هو الذي يفسر حرص النبيّ، بعد ما بدا من صلف قريش وعدم اعتدادها بقوة المهاجرين، على موادعة القبائل المقيمة على طريق هذه التجارة، والتحالف معها تحالفا نمى خبره إلى قريش لعلها ترعوي وتعود إلى التفكير في التفاهم والاتفاق.
يدعم هذا الرأي بأقوى سند أن النبي عليه السلام لمّا خرج إلى بواط وإلى العشيرة كان من بين الذين صحبوه عدد غير قليل من الأنصار أهل المدينة. والأنصار إنما بايعوه ليدفعوا عنه لا ليهاجموا معه. وسنرى ذلك صريحا حين غزوة بدر الكبرى؛ إذ يتردد محمد دون القتال حتى يوافق أهل المدينة عليه. وإذا كان الأنصار لا يرون مخالفة لبيعتهم في أن يعاهد محمد غيرهم من الناس، فليس معنى هذا أن يخرجوا معه لحرب أهل مكة وليس بين الفريقين من أسباب الحرب ما تجيزه أخلاق العرب، أو يجيزه نظام صلاتهم بعضهم ببعض. ومهما يكن في هذه الموادعات التي يعقدها محمد من تقوية المدينة ومن توهين ما تطمع تجارة قريش فيه من أسباب الحماية؛ فشتان ما بين ذلك وبين إعلان الحرب أو السعي إليها. فالقول إذا بأن حمزة أو عبيدة بن الحارث أو سعد بن أبي وقاص إنما خرجوا لحرب قريش. وتسمية سرياتهم غزوات مرجوح عندنا فلا نكاد نسيغه. والقول كذلك بأن محمدا إنما خرج إلى الأبواء وبواط والعشيرة غازيا، فيه تجوّز كبير وترد عليه الاعتراضات التي قدمنا.