أما الذين لم يشتغلوا بالتجارة، ومن بينهم أبو بكر وعمر وعليّ بن أبي طالب وغيرهم. فقد عملت أسرهم في الزراعة في أراضي الأنصار مزارعة مع ملاكها. وكان غير هؤلاء وأولئك يلقون من الحياة شدّة وبأساء؛ لكنهم كانوا يأبون أن يعيشوا كلّا على غيرهم؛ فكانوا يجهدون أنفسهم في العمل أشد الجهد، ويجدون في ذلك من لذة الطمأنينة لأنفسهم ولعقيدتهم ما لم يكونوا يجدونه بمكة. على أن جماعة من العرب الذين وفدوا على المدينة وأسلموا، كانوا في حال من العوز والمتربة، حتى لم يكن لأحدهم سكن يلجأ إليه. هؤلاء أفرد محمد لهم صفة المسجد (وهي المكان المسقوف منه) يبيتون بها ويأوون إليها، ولذلك سموا أهل الصّفة، وجعل لهم رزقا من مال المسلمين والأنصار الذين آتاهم الله رزقا حسنا.
اطمأن محمد إلى وحدة المسلمين بهذه المؤاخاة. وهي لا ريب حكمة سياسية تدل على سلامة تقدير وبعد نظر، نتبين مقدارهما حين نقف على ما كان من محاولة المنافقين الوقيعة بين الأوس والخزرج من المسلمين وبين المهاجرين والأنصار لإفساد أمرهم. لكن العمل السياسي الجليل حقّا والذي يدل على أعظم الاقتدار، ذلك ما وصل به محمد إلى تحقيق وحدة يثرب وإلى وضع نظامها السياسي بالاتفاق مع اليهود على أساس متين من الحرية والتحالف. وقد رأيت اليهود كيف أحسنوا استقباله أملا في استدراجه إلى صفوفهم. وقد بادر هو إلى رد تحيتهم بمثلها، وإلى توثيق صلاته بهم؛ فتحدث إلى رؤسائهم وتقرّب إليه كبراؤهم، وربط بينه وبينهم برابطة المودة باعتبار أنهم أهل كتاب موحدون. وبلغ من ذلك أن كان يصوم يوم صومهم، وكانت قبلته في الصلاة ما تزال إلى بيت المقدس قبلة أنظارهم ومثابة بني إسرائيل جميعا. وما كانت الأيام لتزيده باليهود أو لتزيد اليهود به إلا مودة وقربى. كما أن سيرته، وعظيم تواضعه، وجميل عطفه، وحسن وفائه، وفيض برّه بالفقير والبائس والمحروم، وما أورثه ذلك من قوّة السلطان على أهل يثرب؛ كل ذلك وصل بالأمر بينه وبينهم إلى عقد معاهدة صداقة وتحالف وتقرير لحرية الإعتقاد. معاهدة هي، في اعتقادنا، من الوثائق السياسية الجديرة بالإعجاب على مرّ التاريخ. وهذا الطور من حياة الرسول لم يسبقه إليه نبي أو رسول. فقد كان عيسى وكان موسى وكان من سبقهما من الأنبياء يقفون عند الدعوة الدينية يبلغونها للناس من طريق الجدل ومن طريق المعجزة، ثم يتركون لمن بعدهم من الساسة وذوي السلطان أن ينشروا هذه الدعوة بالمقدرة السياسية وبالدفاع عن حرية الناس في الإيمان بها، ولو دفاعا مسلحا فيه الحرب والقتال، انتشرت المسيحية على يد الحواريين من بعد عيسى، فظلوا ومن تبعهم يعذبون، حتى جاء من الملوك من لان قلبه لهذا الدين فاواه ونشره. وكذلك كان أمر سائر الأديان في شرق العالم وغربه. فأما محمد فقد أراد الله أن يتم نشر الإسلام وانتصار كلمة الحق على يديه، وأن يكون الرسول والسياسيّ والمجاهد والفاتح، كل ذلك في سبيل الله، وفي سبيل كلمة الحق التي بعث بها.
وهو قد كان في ذلك كله عظيما، وكان مثل الكمال الإنساني على ما يجب أن يكون.
كتب محمد بين المهاجرين والأنصار كتابا واعد فيه اليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم. وهذا الكتاب:
«بسم الله الرحمن الرحيم» «هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. أنهم أمة واحدة من دون الناس. المهاجرون من قريش على ربعتهم (?) يتعاقلون بينهم وهم يفدون