فتفكير محمد إذا إنما كان متجها إلى غاية واحدة عليا؛ هي كفالة حرية العقيدة والرأي كفالة في سبيلها وحدها أحلّ القتال، ودفاعا عنها أبيح دفع المعتدي حتى لا يفتن أحد عن دينه، ولا يظلم أحد بسبب عقيدته أو رأيه.
بينما كانت هذه وجهة محمد في التفكير في أمر يثرب وما يجب لكفالة الحرية فيها، كان أهل هذه المدينة ممن استقبلوه يفكرون، وإن كان كل فريق يفكر على نحو يخالف تفكير غيره. فقد كان بيثرب يومئذ المسلمون من مهاجرين وأنصار، وكان بها المشركون من سائر الأوس والخزرج، وكان بين هؤلاء وأولئك ما علمت. ثم كان بها اليهود، يقيم منهم بنو قينقاع في داخلها، ويقيم بنو قريظة في فدك، وبنو النّضير على مقربة منها، ويهود خيبر في شمالها. أما المهاجرون والأنصار فقد آلف الدين الجديد بينهم بأوثق رباط، وإن بقيت في نفس محمد بعض المخاوف أن تثور البغضاء القديمة بينهم يوما، مما جعله يفكر في وسيلة للقضاء على كل شبهة من هذا النوع تفكيرا كان له من بعد أثره. وأما المشركون من سائر الأوس والخزرج، فقد ألفوا أنفسهم بين المسلمين واليهود ضعافا نهكتهم الحروب الماضية، فاتجه همهم للوقيعة بين هؤلاء وأولئك. وأمّا اليهود فبادروا بادئ الرأي إلى حسن استقبال محمد ظنّا منهم أن في مقدورهم استمالته إليهم وإدخاله في حلفهم والاستعانة به على تأليف جزيرة العرب حتى تقف في وجه النصرانية التي أجلت اليهود، شعب الله المختار، عن فلسطين أرض المعاد ووطنهم القومي. وانطلق كلّ على أساس تفكيره يمهد أسباب النجاح لبلوغ غايته.
هنا يبدأ طور جديد من أطوار حياة محمد لم يسبقهن إليه أحد من الأنبياء والرسل. هنا يبدأ طور السياسىّ الذي أبدى محمد فيه من المهارة والمقدرة والحنكة ما يجعل الإنسان يقف دهشا ثم يطأطئ الرأس إجلالا وإكبارا. كان أكبر همه أن يصل بيثرب، موطنه الجديد، إلى وحدة سياسية ونظامية لم تكن معروفة من قبل في سائر أنحاء الحجاز، وإن كانت قد عرفت قبل ذلك بكثير في بلاد اليمن. فتشاور هو ووزيراه أبو بكر وعمر؛ فكذلك كان يسميهما. وقد كان أول ما انصرف إليه تفكيره بطبيعة الحال تنظيم صفوف المسلمين وتوكيد وحدتهم، للقضاء على كل شبهة في أن تثور العداوة القديمة بينهم. ولتحقيق هذه الغاية دعا المسلمين ليتاخوا في الله أخوين أخوين. فكان هو وعليّ بن أبي طالب أخوين. وكان عمه حمزة ومولاه زيد أخوين، وكان أبو بكر وخارجة بن زيد أخوين. وكان عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك الخزرجي أخوين. وتاخى كذلك كل واحد من المهاجرين الذين كثر عددهم بيثرب، بعد أن تلاحق إليها سائر من كان منهم بمكة في أعقاب هجرة الرسول إياها، مع واحد من الأنصار إخاء جعل له الرسول حكم إخاء الدم والنسب. وبهذه المؤاخاة إزدادت وحدة المسلمين توكيدا.
وأظهر الأنصار من كرم الضيافة لإخوانهم المهاجرين ما تقبله هؤلاء أول الأمر مغتبطين. ذلك أنهم تركوا مكة، وتركوا وراءهم ما يملكون فيها من مال ومتاع، ودخلوا المدينة ولا يكاد الكثيرون منهم يجدون قوتهم.
ولم يكن منهم على جانب من الثراء والنعمة غير عثمان بن عفان؛ أما الآخرون فقليل منهم من احتمل من مكة شيئا ينفعه. وقد ذهب حمزة عم الرسول يوما يطلب إليه أن يجد له ما يقنات به. وكان عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين، ولم يكن عبد الرحمن يملك بيثرب شيئا. فعرض عليه سعد أن يشاطره ماله؛ فأبى عبد الرحمن وطلب إليه أن يدله على السوق، وفيها بدأ يبيع الزّبد والجبن، واستطاع بمهارته التجارية أن يصل إلى الثروة في زمن قصير وأن يمهر إحدى نساء المدينة، وأن تكون له قوافل تذهب في التجارة وتجيء. وصنع كثير غير عبد الرحمن من المهاجرين صنيعه،؛ فقد كان لهؤلاء المكيين من الدراية في شؤون التجارة ما قيل معه عن أحدهم: إنه ليحيل بالتجارة رمل الصحراء ذهبا.