السيرة، وإن كنت تجد فيها جميعا خلافا بزيادة أو نقص في بعض نواحيها. من ذلك مثلا ما روى ابن هشام على لسان النبيّ عليه السلام بعد أن لقي آدم في السماء الأولى أنه قال: «ثم رأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل، وفي أيديهم قطع من نار كالأفهار (?) ، يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة مال اليتامى ظلما، ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قطّ بسبيل آل فرعون يمرّون عليهم كالإبل المهيومة (?) حتى يعرضون على النار يطئونهم لا يقدرون على أن يتحوّلوا عن مكانهم ذلك. قلت:

من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الرّبا. ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جانبه غثّ منتن، يأكلون من الغث المنتن ويتركون السمين الطيّب. قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله من النساء ويذهبون إلى ما حرّم الله عليهم منهن. ثم رأيت نساء معلّقات بثديّهن، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم ... ثم دخل بي الجنة فرأيت فيها جارية لعساء، فسألتها لمن أنت؟ - وقد أعجبتني حين رأيتها- فقالت: لزيد بن حارثة. فبشّر بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة» .

وأنت واجد في غير ابن هشام من كتب السيرة وفي كتب التفسير أمورا أخرى غير هذه. ومن حق المؤرخ أن يسائل عن مبلغ التدقيق والتمحيص في أمر ذلك كله، وما يمكن أن يسند منه إلى النبيّ بسند صحيح؛ وما يمكن أن يكون من خيال المتصوّفة وغيرهم. وإذا لم يكن المجال ها هنا متسعا للحكم في ذلك أو لاستقصائه، وإذا لم يكن هاهنا مجال القول في المعراج أو الإسراء أكانا بالجسم، أم كان المعراج بالروح والإسراء بالجسم، أم كان المعراج والإسراء جميعا بالروح، فمما لا شك فيه أن لكل رأي من هذه الآراء سندا عند المتكلمين، وأنه لا جناح على من يقول بواحد دون غيره من هذه الآراء. فمن شاء أن يرى أن الإسراء والمعراج كانا بالروح فله من السند ما قدّمنا وما تكرر في القرآن وعلى لسان الرسول: (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ)

(?) ، وأن كتاب الله هو وحده معجزة محمد، (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (?) .

ولصاحب هذا الرأي أكثر من غيره أن يسأل عن حكمة الإسراء والمعراج ما هي؟ وهنا موضع الرأي الذي نريد أن نبديه ولا ندري أسبقنا إليه أم لم نسبق.

الإسراء ووحدة الوجود

ففي الإسراء والمعراج في حياة محمد الرّوحيّة معنى سام غاية السمو. معنى أكبر من هذا الذي يصوّرون، والذي قد يشوب بعضه من خيال المتكلمة الخطب حظّ غير قليل. فهذا الروح القويّ قد اجتمعت فيه في ساعة الإسراء والمعراج وحدة هذا الوجود بالغة غاية كمالها. لم يقف أمام ذهن محمد وروحه في تلك الساعة حجاب من الزمان أو المكان أو غيرهما من الحجب التي تجعل حكمنا نحن في الحياة نسبيّا محدودا بحدود قوانا المحسّة والمدبّرة، والعاقلة. تداعت في هذه الساعة كل الحدود أمام بصيرة محمد، واجتمع الكون كله في روحه، فوعاه منذ أزله إلى أبده، وصوره في تطور وحدته إلى الكمال عن طريق الخير والفضل والجمال والحق في مغالبتها وتغلبها على الشر والنقص والقبح والباطل بفضل من الله ومغفرة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015