الرجلان على نقض الصحيفة، على أن يستعينوا على ذلك بغيرهم يقنعونهم به سرّا. واتفق معها المطعم بن عديّ وأبو البختري بن هشام وزمعة ابن الأسود وأجمع الخمسة أمرهم وتعاهدوا على القيام في أمر الصحيفة حتى ينقضوها.

وغدا زهير بن أميّة فطاف بالبيت سبعا، ثم نادى في الناس: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم! والله لا أقعد حتى تشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة! وما كاد أبو جهل يسمعه حتى صاح به كذبت والله لا تشقّ! فتصايح زمعة وأبو البختريّ والمطعم وهشام بن عمرو كلهم يكذبون أبا جهل ويؤيدون زهيرا. وأدرك أبو جهل أن الأمر قضى بليل، وأن القوم اتّفقوا عليه، وان مخالفتهم قد تثير شرّا، فأوجس خيفة وتراجع. وقام المطعم ليشقّ الصحيفة فوجد الأرضة قد أكلتها إلا فاتحتها «باسمك اللهم» . وبذلك أتيح لمحمد وأصحابه أن يعودوا من الشعب إلى مكة، وأن يبيعوا قريشا ويبتاعوا منها، وإن بقيت صلات الفريقين كما كانت وبقي كل منهم متحفزا ليوم ويستعلي فيه على صاحبه.

عصمة محمد في التبليغ

ذهب بعض كتاب السيرة إلى أن الذين قاموا في نقض الصحيفة، ممن كانوا لا يزالون على عبادة الأوثان، ذهبوا إلى محمد يسألونه، منعا للشر، أن يتصالح وقريشا على شيء، كأن يسلّم بالهتهم ولو بطرف أصابعه. فمالت نفسه إلى شيء من هذا تقديرا لجميلهم، وقال فيما بينه وبين نفسه: «وما عليّ لو فعلت والله يعلم أني بار» . أو إلى أن هؤلاء الذين نقضوا الصحيفة وجماعة معهم خلوا بمحمد ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه ويسودونه ويقاربونه ويقولون له: أنت سيّدنا، يا سيّدنا؛ وأنهم ما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون. وهاتان الروايتان هما بعض ما حدّث به سعيد بن جبير في الأولى وقتادة في الثانية. ويذكرون أن الله عصم محمدا بعد ذلك وأنزل عليه قوله. (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا. وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (?) .

وهذه الآيات قد نزلت في زعم أصحاب قصة الغرانيق، في تلك القصة المكذوبة كما قد رأيت، وهذان المحدثان يردّانها إلى قصة نقض الصحيفة. وقد نزلت هذه الآيات في حديث عطاء عن ابن عباس في وفد ثقيف؛ إذ طلبوا إلى محمد أن يحرّم واديهم كما حرمت مكة شجرها وطيرها ووحشها؛ فتردد النبي عليه السلام حتى نزلت. ومهما تكن الحقيقة الثابتة التي لا تختلف الروايات عليها للواقعة أو الوقائع التي نزلت الآيات فيها، فإنها تصور ناحية من نواحي العظمة النفسية لمحمد، كما تصور صدق إخلاصه تصويرا قويّا. وهذه الناحية تصورها كذلك الآيات التي نقلنا من سورة «عبس» ويشهد بها تاريخ محمد كله. تلك أنه كان يصارح الناس بأنه بشر مثلهم يوحي ربه إليه لهدايتهم، وأنه وهو بشر مثلهم معرض للخطأ لولا عصمة الله إياه. فهو قد أخطأ حين عبس لابن أم مكتوم وتولى عنه، وهو قد كاد يخطئ فيما نزلت آيات الإسراء في شأنه، وكاد يفتن عن الذي أوحي إليه ليفتري غيره. فإذا نزل عليه الوحي ينبهه إلى ما صنع في أمر الأعمى، وفي أمر هذه الفتنة التي كادت قريش تدفعه إليها، وصدق في تبليغ هذا الوحي إلى الناس صدقه في تبليغ رسالات ربه ولم يقف حائل من أنفة أو كبرياء ولا وقف اعتبار إنساني، حتى مما يسيغ الفضلاء، دون إعلان هذا الحق في أمر نفسه؛ فالحق إذا، والحق وحده، كان رسالته. وإذا كان احتمال أذى الغير في سبيل ما نؤمن به بعض ما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015