فرار المسلمين من مكة إلى شعاب الجيل- عدم اختلاطهم بالناس إلا في الأشهر الحرم- قيام زهير وأصحابه في نقض الصحيفة- وفاة أبي طالب وخديجة- إيذاء قريش محمدا- ذهاب محمد إلى الطائف ورد ثقيف إياه- الإسراء والمعراج.
ظلت الصحيفة التي تعاقدت قريش فيها على مقاطعة محمد وحصار المسلمين نافذة ثلاث سنوات متتابعة، احتمى محمد وأهله وأصحابه خلالها في شعب من شعاب الجبل بظاهر مكة، يعانون الحرمان ألوانا، ولا يجدون في بعض الأحايين وسيلة إلى الطعام يدفعون به جوعهم. ولم يكن يتاح لمحمد ولا للمسلمين الاختلاط بالناس والتحدّث إليهم إلا في الأشهر الحرم، حين يفد العرب إلى مكة حاجين، وحين تضع الخصومات أوزارها، فلا قتل ولا تعذيب ولا اعتداء ولا انتقام. في هذه الأشهر كان محمد ينزل إلى العرب يدعوهم الى دين الله ويبشرهم بثوابه وينذرهم عقابه. وكان ما أصاب محمدا من الأذى في سبيل دعوته شفيعه عند كثيرين؛ حتى لقد زادهم ما سمعوا من ذلك عليه عطفا، وعلى دعوته إقبالا. وهذا الحصار الذي أوقعته قريش واحتماله إياه صابرا في سبيل رسالته، كسب له كثيرا من القلوب التي لم تبلغ منها القسوة ما بلغت من قلب أبي جهل وأبي لهب وأمثالهما.
على أن طول الزمن وكثرة ما أصاب المسلمين من عنت قريش، وهم منهم إخوانهم وأصهارهم وأبناء عمومتهم، جعل كثيرين يشعرون بفدح ما ارتكبوا من ظلم وقسوة. فلولا أن كان من أهل مكة رجال، لديهم على المسلمين عطف، يحملون إليهم الطعام في الشعب الذي احتموا به لهلكوا جوعا. وكان يأتي بالبعير قد أوقره طعاما أو برّا فيسير به جوف الليل، حتى إذا استقبل فم الشعب خلع خطامه ثم ضرب على جنبيه فيدخل البعير الشعب عليهم. ولما ضاق بما يحتمل محمد وأصحابه من الأذى صدرا، مشى إلى زهير بن أبي أميّة، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبث الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت، لا يبتاعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم؟! أمّا إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا؟ وتعاهد