وهم يجدون الخصومة دائما ناشئة على أشدّها بينهم وبين ذوي المال والجاه والسلطان؛ لأن هؤلاء يخافون من كل جديد أن يجني على مالهم أو جاههم أو سلطانهم، وهم لا يعرفون غير هذه الحياة حقائق ملموسة. كل ما سوى هذه حقّ إذا هو أدّى إلى مزيد منها، باطل إذا بعث إلى أصحابها أيسر ظلّ من الريبة إزاءها: ربّ المال يرى أن الفضيلة حق إذا زادت في ماله، باطل إذا حرمته إياه. وأن الدّين حق إذا عرف كيف يسخره لشهواته، باطل إذا وقف في وجه هذه الشهوات وحطمها، ورب الجاه ورب السلطان في ذلك كربّ المال سواء. وهؤلاء في خصومتهم لكل جديد يخافون منه، يستعدون السواد الذي يفيد منهم رزقه على المنادي بهذا الرأي الجديد، وهم يستعدون السواد بتقديس الصروح القديمة التي نخر السوس فيها بعد أن فرّ الروح منها. وهم يقيمون هذه الصروح هياكل من الحجر ليزعموا للسواد البريء أن الروح المقدّس، الذي لفوه هم في أكفانه، ما برح في جلاله بين محبس هذه الهياكل. والسواد ينصرهم أكثر الأمر؛ لأنه ينظر قبل كل شيء إلى رزقه، ولا يسهل عليه أن يدرك أن أية حقيقة لا تطيق أن تبقى حبيسة بين جدران معبد من المعابد بالغا ما بلغ جماله وجلاله، وأن في طبع الحقيقة أن تكون حرة طليقة تغزو النفوس وتغذوها، لا تفرّق فيها بين نفس سيد ونفس عبد، ولا يقف نظام من النظم في سبيلها بالغة ما بلغت قسوته وبطش أصحابه في حمايته. فكيف تريد من هؤلاء الذين كانوا يتسللون لواذا يستمعون إلى القرآن أن يؤمنوا به وهو يؤاخذهم في كثير ممّا يرتكبون، وهو لا يفرّق بين الأعمى ومن استغنى بكثرة المال إلا بطهارة النفس، وهو ينادي الناس جميعا: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) (?) . فإذا ظل أبو سفيان ومن معه على دين آبائهم فليس ذلك إيمانا منهم به أو بحق يحتويه، بل هو حرص على نظام قديم أقامه ثم أفاء الحظّ عليهم في ظلّه من بسطة المال والجاه ما يحرصون عليه ويحاربون الحياة كلها دونه.
وإلى جانب هذا الحرص كان يقوم الحسد والتنافس والتنازع مانعا من إقبال قريش على متابعة النبيّ.
كان أميّة بن أبي الصّلت ممن حدّثوا عن نبيّ يقوم في العرب قبل ظهور محمد، حتى طمع هو في النبوّة؛ وأكلت قلبه الغيرة حين لم ينزل الوحي عليه، فلم يرض أن يتابع من ظنه منافسه مع غلبة الحكمة على شعره، حتى قال عليه السلام يوما وهذا الشعر يروى أمامه: «أميّة آمن شعره وكفر قلبه» . وكان الوليد بن المغيرة يقول:
«أينزّل على محمد وأترك أنا كبير قريش وسيدها ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفيّ سيدّ ثقيف ونحن عظيما القريتين» وإلى هذا يشير قوله تعالى: (وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (?) .
ولما استمع أبو سفيان وأبو جهل والأخنس إلى القرآن ثلاث ليال متتابعة في القصة التي رويناها، ذهب الأخنس إلى أبي جهل في بيته فسأله: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعنا من محمد؟! فكان جواب أبي جهل «ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا الرّكب وكنا كفرسيّ رهان قالوا: منّا نبيّ يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه؟! والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه» . وللحسد والتنافس والتنازع في هذه النفوس البدوية من عميق الأثر ما يخطئ الإنسان إذا هو حاول الإغضاء عنه أو لم يقدره حق قدره. ويكفي أن نذكر ما لهذه الشهوات على النفوس جميعا من سلطان، لنقدر أن التخلص من أثرها يجب أن يسبقه تهذيب طويل يصقل الفؤاد ويرفع حكم العقل على نزعات الهوى، ويسمو بالعاطفة وبالروح إلى مرقى يجعلك ترى الحقيقة على لسان خصمك بل عدوّك هي