بل لقد بلغ من أمر محمد ما هو أعظم من هذا، بدأ أشدّ قريش خصومة يسائلون أنفسهم: أحقّا أنه يدعو إلى الدين القيم، وأن ما يعدهم وما ينذرهم هو الصحيح؟ خرج أبو سفيان بن حرب وأبو جهل بن هشام والأخنس بن شريق ليلة ليستمعوا إلى محمد وهو في بيته، فأخذ كلّ منهم مجلسا يستمع فيه وكلّ منهم لا يعلم بمكان صاحبه. وكان محمد يقوم اللّيل إلا قليلا يرتل القرآن في هدوء وسكينة، ويردّد بصوته العذب آياته القدسيّة على أوتار سمعه وقلبه. فلما كان الفجر تفرّق المستمعون وهم عائدون إلى منازلهم؛ فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا! فلو رآكم بعض سفهائكم لأضعف ذلك من أمركم ولنصر محمدا عليكم. فلما كانت الليلة الثانية شعر كل واحد منهم، في مثل الموعد الذي ذهب فيه أمس، كأنّ رجليه تحملانه من غير أن يستطيع امتناعا ليقضي ليله حيث قضاه أمس، وليستمع إلى محمد يتلو كتاب ربه.
وتلاقوا عند عودتهم مطلع الفجر وتلاوموا من جديد، فلم يحل تلاومهم دون الذهاب في الليلة الثالثة. فلما أدركوا ما بهم لدعوة محمد من ضعف تعاهدوا ألا يعودوا لمثل فعلتهم، وإن ترك ما سمعوا من محمد في نفوسهم أثرا جعلهم يتساءلون فيما بينهم عن الرأي فيما سمعوا، وكلهم تضطرب نفسه ويخاف أن يضعف وهو سيد قومه فيضعف قومه ويتابعوا محمدا معه.
ما منعهم أن يتابعوا محمدا؟ إنه لا يريد منهم مالا ولا فيهم سيادة ولا عليهم ملكا أو سلطانا، وهو بعد رجل جمّ التواضع شديد الحب لقومه والبّر بهم والحرص على هداهم، شديد حساب النفس، حيث ليخشى إساءة المسكين والضعيف، ويرى في المغفرة لأذى يحتمله طمأنينة لقلبه وراحة لضميره. ألم يقف مع الوليد بن المغيرة يوما وقد طمع في إسلامه، والوليد سيد من سادات قريش، فمرّ به ابن أم مكتوم الأعمى وجعل يستقرئه القرآن، وألح في ذلك حتى شق على محمد إلحاحه، لما شغله عما كان فيه من أمر الوليد، فتولى عنه وانصرف عابسا، فلما خلا إلى نفسه جعل يحاسبها على صنيعها ويسائلها أأخطأ؟ حتى نزل عليه الوحي بهذه الآيات: (عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى. وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى. أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى. وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى. كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ) (?) .
فما دام ذلك أمره فما منع قريشا أن يتابعوه، وأن يعينوه على دعوته، وخاصة بعد إذ لانت قلوبهم، وإذ أنستهم السنون ما تدفع إليه المحافظة على القديم البالي من جمود النفس، وإذ رأوا في دعوة محمد جلالا وكمالا؟!
ولكن! أحقّا أن السنين تنسي النفوس جمودها ومحافظتها على القديم البالي؟ إنما يكون ذلك عند الممتازين ومن في قلوبهم نزوع دائم إلى الكمال، هؤلاء ما يزالون حياتهم كلها يقلّبون الحقائق التي آمنوا من قبل بها لينفوا ما يعلق بها من زيف بالغة ما بلغت تفاهته. وهؤلاء كأن قلوبهم وعقولهم بوتقة دائمة الغليان، تقبل كل جديد من الرأي يلقى إليها، فتصهره وتنفي خبثه وتستبقي ما فيه من خير وحق وجمال. وهؤلاء يلتمسون الحقّ في كل شيء وفي كل مكان وعلى كل لسان. بيد أنهم في كل أمة وعصر هم الصفوة المختارة، وهم لذلك قلة أبدا.