أهله وأعمامه. تهكمت به وبدعوته، وسخرت منه وممّن اتّبعه. أرسلت شعراءها تهجوه وتفري أديمه. نالته بالأذى ونالت من اتّبعه بالسوء والعذاب. عرضت عليه الرشوة، وعرضت عليه الملك، وعرضت عليه كل ما يطمع الناس فيه. شرّدت أنصاره عن أوطانهم، وأصابتهم في تجارتهم وفي أرزاقهم. أنذرته وأنذرتهم الحرب وأهوالها وما تجني وما تدمّر. وها هي ذي تحاصرهم أخيرا لتميتهم جوعا إن استطاعت إلى ذلك سبيلا. مع ذلك ظلّ محمد يشتدّ في دعوة الناس بالحسنى إلى الحق الذي بعثه الله به للناس بشيرا ونذيرا. أفان لقريش أن تلقي سلاحها وأن تصدّق الأمين الذي عرفته منذ طفولته وكل صباه وشبابه أمينا؟ أم أنها لجأت إلى سلاح غير ما قدّمنا من أسلحة النضال وخيّل إليها أنها مستطيعة به أن تكسب الموقعة، وأن تستبقي لأصنامها مكانة الألوهية التي تزعمها، وأن تستبقي بمكة متحف هذه الأصنام ومكان تقديسها ليبقى لمكة كلّ ما ينالها بسبب هذه الأصنام من تقديس؟!

كلّا! لم يأن لقريش أن تذعن وأن تسلم وهي الآن أشدّ ما تكون خوفا من انتشار دعوة محمد بين قبائل العرب بعد أن انتشرت بمكة. وقد بقي لديها سلاح لجأت إليه منذ الساعة الأولى ولا يزال لها في قوّته وفي مضائه مطمع، ذلك سلاح الدعاية: الدعاية بكل ما تنطوي عليه من مجادلة وحجج ومهاترة وترويج إشاعات وتوهين لحجة الخصم، واستعلاء بالدليل على دليله. الدعاية على العقيدة وعلى صاحب العقيدة واتّهامه فيها واتّهامها لذاتها. الدعاية التي لا تقف عند حدود مكة، والتي لم تكن بحاجة إليها كحاجة البادية وقبائلها وشبه الجزيرة وسائر أهلها. كان التهديد والإغراء والإرهاب والتعذيب بعض ما يغني عن الدعاية في مكة، لكنها لم تكن لتغني عنها شيئا عند الألوف الذين يفدون إلى مكة كل عام في التجارة والحج، والذين يجتمعون في أسواق عكاظ ومجنّة وذي المجاز ليحجّوا إلى الكعبة بعد ذلك مقرّبين إلى أصنامهم، ناحرين عندها، ملتمسين منها البركة والمغفرة. لذلك فكرت قريش منذ استحرّت الخصومة بينها وبين محمد في تنظيم الدعاية عليه. وكانت في تفكيرها هذا أشد إمعانا منذ فكّر هو في مبادأة الحاجّ بدعوتهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وهو قد فكر في هذا بعد السنين الأولى من بعثه؛ فهو قد بدأ نبيّا منذ بعثه إلى أن جاءه الوحي أن ينذر عشيرته الأقربين.

فلما أنذر قريشا وأسلم منها من أسلم، وألح في الكفر والعناد من ألحّ، ألقى عليه أن يدعو قومه والعرب جميعا ليلقى عليه من بعد ذلك أن يدعو الناس كافة.

لمّا فكر في مبادأة الحاجّ من مختلف قبائل العرب بالدعوة إلى الله، اجتمع نفر من قريش إلى الوليد بن المغيرة يتشاورون: ماذا عسى أن يقولوا في شأن محمد للعرب القادمين إلى موسم الحج، حتى لا يختلف بعضهم على بعض ويكذّب بعضهم بعضا. واقترح بعضهم أن يقولوا: إن محمدا كاهن؛ فردّ الوليد هذا الرأي أن ليس ما يقول محمد بزمزمة (?) الكاهن ولا بسجعه. واقترح آخرون أن يزعموا أن محمدا مجنون؛ فردّ الوليد هذا الرأي بأنه لا تبدو عليه لهذا الزعم ظاهرة. واقترح غيرهم أن يتهموا محمدا بالسحر؛ فرد الوليد بأن محمدا لا ينفث في العقد ولا يأتي من عمل السّحرة شيئا. وبعد حوار اقترح الوليد عليهم أن يقولوا للحاجّ من العرب إن هذا الرجل ساحر البيان، وإن ما يقوله سحر يفرّق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته. وكان لهم عند العرب من الحجة على قولهم هذا ما أصابهم في مكة من فرقة وتخاذل وتناحر، بعد أن كانت مكة مضرب المثل في العصبية وفي قوّة الرابطة. وانطلقت قريش في الموسم تحذّر الحاجّ الاستماع إلى هذا الرجل وسحر بيانه، حتى لا يصيبها ما أصاب مكة فتكون فتنة تصلى نارها جزيرة العرب جمعاء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015