وأمر الباشا بإحضار أئمة الحارات، وأمرهم أن يكتبوا أن جميع الذي نهب وسلب ردّه الباشا في الحال، ولم يهذب لأحد عقال وختّمهم بهذا العرض على هذا الشرط. وكانت هذه مكيدة منه ولم يقدروا أن يخالفوا أمره. وبقيت جماعة الباشا تنهب وتظلم، وتبغي وتتجبّر، ولا توقر كبيراً ولا صغيراً، ويقولون عن أهل الشام كلكم كفار ونصارى وأشرار. وكان لا يطعم جماعته إلا اللحم والأرز والخبز الطيب، حتى قلّ اللحم ولم يوجد خبز يؤكل، وعلى كل فرن مئات من الناس الجائعين، حتى افتقرت غالب أهل البلد، وصاروا يسألون الناس، وزاد النكد ونهضت الأسعار نهوض الماكر الجبار: فصار رطل الأرز بأربعة وعشرين مصرية، والخبز مثله، والدبس مثل ذلك، وأوقية السمن بثمانية مصاري، وأوقية الزيت بأربعة مصاري، وغرارة القمح بثلاثة وسبعين غرشاً، وغرارة الذرة بثمانية وأربعين، وغرارة الحمص بستين غرشاً، وغرارة العدس بخمسة وثلاثين، والشعير بخمسين، وأوقية السماق بأربعة مصاري، ورطل البصل بأربعة مصاري وعلى هذا فقس ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وبعد مدة أيام قطع الباشا خرج بعض العساكر والبيارق، فصاروا يغيرون على القرايا، وينهبون الأموال والأعراض والأولاد. ولا تسأل كذلك عن عسكر الباشا، فإنهم نهبوا البساتين وكسروا الشجر وشلحوا البشر. ومع ذلك فإن الباشا لم يرض بذلك، وطالما عاملهم بالتأديب والضرب الأليم، فلم يرجعوا حتى صار يقتل منهم. وأرادت أهل الشام أن تقاتلهم، لكن لم يجدوا أحداً يأخذ بيدهم، وأكابر الشام لم تتكلم بخير، والأمر لله.
وبهذه الأيام نفى الباشا نقيب الأشراف حمزة أفندي إلى القدس. وبعد مدة جاء فرمان مع قبجي بأن عبد الله باشا الشنّجي والي الشام له الأمر المفوَّض يفعل ما يريد بلا مشاورة. ثم إنه تحرك لسفر الدورة، فأمر بإخراج المدفعين اللذين في باب القلعة، وكان لهم سنين وأعواماً لم يخرجوا، فعمل لهم عربات ومن الحديد حلقات، بلغ وزنهم مع الخشب ثلاثة وثلاثين قنطاراً، وخرج بهم طالباً سفر الدورة، وعمل شواهي مثل المدافع الصغار وركّبها على ظهور الجمال تدور يميناً وشمالاً ثم أمر العامة أن يجروا المدافع الكبار، فقتل منهم رجلان وتحطم منهم جماعة. وقد فرضت جماعته على الحارات والأسواق مال، فلمّوه باستعجال.
ولما خرج الباشا إلى الدورة شنق متسلمه رجلاً، وجاء بعض أعوانه برجل شريف، وقالوا: هذا قوّس مع الإنكشارية، فحالاً أمر بخنقه ولم يشاور أحدا. وصار الآخر يظلم وهذا يجور، وزاد البلاء والغلاء، وجلس على كل حانوت من حوانيت الخبّازة واحد من أعوان الحاكم وذلك من كثرة ازدحام الخلائق وكثرة النساء والأولاد فتسمع لهم بكاء ونحيبا يقطع القلوب والأكباد. والأمر لله لأنه مراده.
وفي تلك الأيام جاء الخبر بقتل أسعد باشا بن العظم والي الشام سابقاً. وبعد أيام جاء قبجي من جهة الدولة بختم سرايته وضبط ماله وختم بيوت جميع أتباعه وأعوانه وضبط مالهم ورفعهم إلى القلعة، وازدادت الشدة، وصارت أمور وأهوال في دمشق الشام ما وقعت في سالف الأزمان. ثم جاءت أتباع ابن العظم أسعد باشا، ودخل القبجي إلى السرايا، فأخرج الدفائن العظيمة من سرايته فإذا هي كالكنوز المودوعة فيها، فأخرجوا من الأرض ومن الحيطان والسقوف والأحواض حتى من الأدبات دراهم ودنانير وأمتعة نفيسة لا تقام بقيمة، ومجوهرات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تَعالى والحكم لله العلي الكبير.
وفي يوم الخميس رابع رمضان جاء الباشا من الدورة ودخل دمشق. وفي سابع عشر شوال خرج عبد الله باشا الشتجي للحج الشريف بموكب عظيم وعسكر جرّار.
وبتلك السنة توفي الشيخ أحمد المنيني الحنفي خطيب الجامع الأموي رحمه الله تَعالى. وجاء سيل عظيم في مربعانية الصيف نزل في قرية جبة من قرب يبرود، وكان نزوله في أول الليل، فما كان إلا ساعة حتى أخذ قرية جبة عن بكرة أبيها، ثم مرّ على يبرود، فغطى جميع الكروم وهدم وقتل، ثم وصل إلى قرية النبك يهدر في جريه مثل الرعد، فأتلف بها كثيراً. نسأله تعالى اللطف بالمقدور.
سنة 1172