ودامت هذه الفتنة أياماً بين صلح وقيل وقال، حتى صار الديوان عند الأغوات وأكابر الشام، وبُت القرار على إخراج غريب كيت من الشام، وأن يخرج ولي الذي كان سبب الفتنة. فأخرجوهم كذا الأغوات، ومعهم علي أفندي المرادي تطييباً لخاطر أهل البلد، ولم يزالوا خارجين بهم إلى خارج البلد، فرجعت الأغوات والأفندي المرادي وبقي الوجل على حاله، ثم صارت أهل كل حارة تسهر كل ليلة. وبقي الأمر على ذلك إلى أن وصل الخبر إلى الشام بأن الذين خرجوا نهبوا القرايا وقتلوا النفوس، وهتكوا الحريم. فأرسلت الحكومة أوراقاً إلى أهل البر والقرايا أن يقتلوهم أو يطردوهم، فتعصّبوا عليهم وطردوهم، ولكن بعدما قتلوا ونهبوا. ثم رأوا القبجي في طريقهم فشلحوه، وقتلوا بعض جماعته. وبقيت أهل الشام بين خوف وأهوال، إلى أن كان يوم الاثنين سابع والعشرين من ذي الحجة وصل خبر إلى الشام بأن موسى باشا باشة الجردة لما وصل إلى القطرانة خرجت عليه العرب شلحوه ونهبوا الجردة وكل ما فيها، حتى شلحوه لباسه وخاتمه من إصبعه، وأنزلوه من تخته، وركبوا مكانه في التخت، وأخذوا طبوله وأطواخه ومدافعه. وكان كبيرهم يقال له قعدان الفايز. ثم تفرقت الجماعة الذين كانوا في الجردة، فرجعت منهم أناس إلى الشام، ومنهم ناس انقطعوا في حوران، ومنهم ناس هربوا إلى غزة، وناس إلى القدس، وناس إلى معان مع ابن موسى باشا، لأنها قريبة من الموضع الذي نهبت فيه الجردة. وأما الباشا فإنه رجع إلى قرية داعل وأقام بها مدة أيام. فأرسلوا له تختاً ليحملوه به، فوجدوه قد مات، فحملوه وجاؤوا به إلى الشام. وكان دخلوه على البلد في أول الليل، وثاني يوم دفنوه في تربة سيدي خمار رضي الله عنه.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومئة وألف، ونحن على هذا الحال، نسأله تعالى أن يحوِّل حالنا إلى أحسن حال.
وفي هذا الشهر المحرم الحرام توفي العالم العلامة خاتمة المحدثين وبقية السلف الصالحين الشيخ صالح الجنيني المحدث الكبير تحت قبة النسر في الجامع الأموي، وصار له مشهد عظيم، ودفن بباب الصغير، رحمه الله تَعالى.
وفي تلك الأيام خرجت جردة ثانية دون الجردة الأولى. وفي سابع وعشرين محرم دخل جوقدار حسين باشا والي الشام وأمير الحاج، ومعه ثلاث هجانة مردفين، ومعهم أخو ابن مظيان شيخ عرب الحجاز، فتباشرت أهل الشام وزينوا الأسواق بالقناديل. فقامت القبقول وخرجوا وقوّسوا على الرعية، وصارت هزة قوية، وبقيت الفتنة في البلد بين الإنكشارية والقبقول والأشراف، فقتل القبقول من الأشراف نحو ثلاثين رجلاً وقوسوا على جامع الأموي، وقتلوا الشيخ عمر كبب مؤذن الجامع، وكان نازلاً من أذان الظهر، وقتل فيه بعض أولاد، وصار الهرج في أسواق المدينة مدة أيام، ثم دخلت الأغوات والأفندية بينهم بالصلح، فأبوا، فقالوا لهم: ارفعوا القتال واصبروا حتى يأتي حسين باشا من الحاج، ويفصل في هذه الأحكام، فرفعوا القتال.
وبقيت القبقول في القلعة لا تحول ولا تزول، إلى أن كان يوم الاثنين سابع عشر صفر الخير، والناس مزعوجة من تأخير مجيء الحج ولم تدر ما السبب، جاء خبر إلى الشام بأن الحج قد شلحه العرب ونهبوه، والعرب سلبت النساء والرجال أموالهم وحوائجهم. فضجت العالم وتباكت الخلق وأظلمت الشام. وبلغ الناس بأنه جاء إلى المتسلم ست مكاتيب أن يخرج إلى الحاج نجدة فلم يظهرها، فقامت العامة وهجموا على المتسلم بالسرايا ورجموه بالأحجار، فاجتمعت الموالي والأغوات، ونادوا بإخراج دواب من البلد وأن يخرجوا حوائج وثياب مفصلة ومخيطة ونعال وزرابيل، وأن تخرج رجال لملاقاة الحاج. فخرج خلق كثير، وكان خروجهم يوم الجمعة في الحادي والعشرين من صفر الخير، وذلك بعدما كتبوا عرضاً للدولة يعلموهم بهذا الحال، وأرسلوا إلى حمص يطلبون حسن باشا بن الكبرلي لأجل أن يحافظ على الشام.