وبيتٍ تهبُّ الرِّيحُ في حجراتِهِ ... بأرضِ فضاءٍ بابُهُ لم يحجَّبِ

سماوَتُهُ أسمالُ بردٍ مفوَّفٍ ... وصهوتُهُ من أتحميٍّ معقَبِ

وأطنابُهُ أشطانُ جُردٍ كأنَّها ... صدورُ القنا من بادئٍ ومعصَّبِ

يُكفُّ على قومٍ تُدرُّ رماحُهم ... عروقَ الأعادي من غريرِ وأشيبِ

وفينا ترَى الطُّولَى وكلَّ سَمَيدَعٍ ... مدرَّبِ حربٍ وابنِ كلِّ مدرَّبِ

طويل نجادِ السَّيف لم يرضَ خُطَّةً ... من الخسْف خوَّاضٍ إلى الحربِ محْرَبِ

وفينا رباطُ الخيل كلُّ مطهَّمٍ ... رَجيلٍ كسِرْحان الغضا المتأوِّبِ

وكُمتاً مدمَّاةً كأنَّ متونَها ... جرَى فوقَها واستشعرتْ لونَ مُذهبِ

وهَصْنَ الحصَى حتَّى كأنَّ فُضاضَهُ ... ذُرَى بردٍ من وابلٍ متحلِّبِ

يُبادرنَ بالفَرسان كلَّ ثنيَّةٍ ... جُنوحاً كفرَّاط القطا المتشرِّبِ

إذا انقلبتْ أدَّتْ وجوهاً كريمةً ... محبَّبةً أدَّينَ كلَّ محبَّبِ

خَدَتْ حولَ أطناب البيوتِ وسوَّفتْ ... مَراداً إن تقرعْ عصا الحربِ تركَبِ

وللخيلِ أيَّام فمن يصطبرْ لها ... ويعرفْ لها أيَّامها الخيرَ يُعقبِ

هذا البيت مأخوذ من قول امرئ القيس:

والخيرُ ما طلعتْ شمسٌ وما غربتْ ... معلَّقٌ بنواصِي الخيل معصوبُ

وقول النَّبيّ صلى الله عليه وسلّم أصحّ الأقاويل يُشبه هذه الأبيات وهو: " الخيرُ ما طلعتِ الشَّمسُ وما غربتْ معلَّق بنواصي الخيل ".

ومن أجود أشعار الجاهلية، بل هي مقدّمة في قصائدهم، قصيدة سويد بن أبي كاهل وهي:

بسطتْ رابعةُ الحبلَ لنا ... فوصلْنا الحبلَ منها ما انقطعْ

حرَّةٌ تجلو شَتيتاً واضحاً ... كشعاعِ البرقِ في الغيمِ سطعْ

صقلتهُ بقضيبٍ ناعمٍ ... من أراكٍ طيِّب حتَّى نصعْ

تمنحُ المرآةَ لوناً واضحاً ... مثلَ قرنِ الشَّمسِ في الصَّحوِ ارتفعْ

وأبيتُ اللَّيلَ ما أرقدهُ ... وبعينيَّ إذا نجمٌ طلعْ

فإذا ما قلتُ ليلٌ قدْ مضَى ... عطفَ الأوَّلُ منهُ فرجعْ

رُبَّ مَن أنضجتُ غيظاً قلبهُ ... قد تمنَّى ليَ موتاً لم يُطعْ

ويراني كالشَّجا في حلقهِ ... عسِراً مخرجُهُ ما ينتزَعْ

مُزبدٌ يخطرُ ما لم يرَني ... فإذا أسمعتُهُ صوتي انقمَعْ

قد كفاني اللهُ ما في نفسهِ ... ومتى ما يكْفِ شيئاً لم يُضعْ

لم يضرْني غير أن يحسدَني ... فهوَ يزقُو مثلَ ما يَزقو الضِّوَعْ

ويحيِّني إذا لاقيتُهُ ... وإذا يخلُو به لحمي رتَعْ

ساءَ ما ظنُّوا وقد أبليتُهم ... عند غايات المَدَى كيف أقَعْ

كيف يرجون سِقاطي بعدما ... جُلِّلَ الرَّأسُ بشيبٍ وصلَعْ

أنفضُ الغيبَ برجمٍ صائبٍ ... ليس بالطَّيشِ ولا بالمرتجَعْ

فارعُ الصَّوت فما يجهدُني ... ثَلِبٌ عَودٌ ولا شَخْتٌ ضرَعْ

هل سويدٌ غيرُ ليثٍ خادرٍ ... أجدبتْ أرضٌ عليه فانتجَعْ

كم مُسرٍّ ليَ حِقداً قلبُهُ ... فإذا قابلهُ شخصي ركَعْ

ورِثَ البغضةَ عن آبائه ... حافظُ العقل لِما كانَ استمَعْ

فسعَى مَسعاتهم في قومِهم ... ثمَّ لم يظفرْ ولا عجزاً ودَعْ

زرعَ الدَّاءَ ولم يدركْ به ... تِرةً فاتتْ ولا وهياً رقَعْ

مُقعياً يَرمي صفاةً ولم تُرمْ ... في ذُرَى عَيطاءَ ليست تُطَّلَعْ

غلبتْ عاداً وردَّتْ قيصراً ... وأبتْ هضبتُها أنْ تُقتلَعْ

لا يراها النَّاسُ إلاَّ فوقَهم ... فهيَ تأتي كيفَ شاءتْ وتدَعْ

فهوَ يرمِيها ولا يبلُغُها ... وَرَهَ الأحمقِ يرضَى ما صنَعْ

كَمِهَتْ عيناهُ حتَّى ابيضَّتَا ... فهوَ يلحَى نفسَه لما نزَعْ

إذ رأَى أنْ لم يضرْها جهدُهُ ... ورأَى خلقاءَ ما فيها طمَعْ

وعدوٍّ جاهلٍ ناضلتُهُ ... في تراخِي الدَّارِ عنكم والجُمَعْ

فتَساقيْنا بمُرٍّ مَقِرٍ ... في مقامٍ ليس يثنيهِ الفزَعْ

وارْتَمينا والأعادي حُضَّرٌ ... بنبالٍ ذاتِ سمٍّ قد نقَعْ

بنبالٍ كلُّها مَذروبةٌ ... لم يطقْ صنعتَها إلاَّ صنَعْ

خرجتْ عن بِغضةٍ بيِّنةٍ ... في شبابِ الدَّهرِ والدَّهرُ جَذَعْ

فتحارَضْنا وقالوا إنَّما ... تنصُرُ الألسنُ من كانَ ضَرَعْ

ثمَّ ولَّى وهْوَ لا يحمي اسْتَهُ ... طائرُ الإترافِ عنه قد وقَعْ

ساجدَ المنخِر لا يرفعُهُ ... خاشِع الطَّرفِ أصمَّ المُستمَعْ

فرَّ منِّي هارباً شيطانُهُ ... حين لا يُعطي ولا شيئاً منَعْ

ورأَى منى مقاماً ثابتاً ... صادق الحملة كتام الجزع

ولساناً صَيرفيّاً صارماً ... كالحُسام العَضْب ما مسَّ قطَعْ

فكفاني اللهُ ما في نفسهِ ... ومتَى ما يكفِ شيئاً لم يُضَعْ

وقع الاختيار من هذه القصيدة على ما أثبتناه وتركنا منها ما لو أتينا به كان مختاراً، فأمَّا قوله: " مقعياً يرمي صفاة لم ترم " البيتين وما بعد، هذه الأبيات من هذا المعنى فهو يُشبه قول زيد بن أحمد البردعي يمدح يوسف ابن أبي الساج ويصف القلعة:

وكأنَّما تلك الشَّوا ... مخُ حولَ قَلعتها عشائرْ

وكأنَّها حُسّانةٌ ... غيداءُ في غِيدٍ غرائرْ

شمطاءُ عن دارٍ تَوا ... رثها الأكابرُ والأكابرْ

لا الرُّومُ رامتْها ولا ... قصدتْ تُطاولُها القياصرْ

وتأبَّهتْ عن ذِي رُعَيْ ... نَ وذي نُواسَ وذِي شناترْ

عذراءُ لمَّا تُفترعْ ... سبلاً ولا شَعرتْ لماهرْ

مَعقومةٌ ما أمْغَلَتْ ... لكنَّها أُمُّ الحباكِرْ

بكرٌ قوابلُها العَوا ... مِلُ والمُذلَّقة البواتِرْ

في فَرع سامقةٍ على ... خَلقاءَ باسقةِ العراعِرْ

عنقاءَ عازبةِ المسا ... لك والموارد والمصادِرْ

زَعراءَ حَصَّاءِ القرَى ... جرداءَ زلاَّءِ المآخِرْ

صَمَّاءَ ملساءِ الهوا ... دِي والحناجِر والكَراكِرْ

رَوقاءَ لم تكْسَسْ وكمْ ... شرِيَتْ نواجذُها الأواشِرْ

مِثل الرَّبابة في السَّماءِ خلا ... ءَ أنجمُها الزَّواهِرْ

يرتدُّ عن شُرُفاتها ... نقدُ النَّواظرِ وهْوَ سادِرْ

منظومةٌ أبراجُها ... مطويَّةٌ طيَّ القناطِرْ

مثل الهوادج والفَوا ... لِجِ تحتَها الهدلُ المشافِرْ

محجوبةٌ حُجَّابُها ... ما بين مأمورٍ وآمِرْ

هذا الشعر من أجود ما وصفت به قلعةٌ وهو أكثر من هذا إلاَّ أنَّا اختصرناه، وللشعراء في ذكر القلاع وصفاتها أشعارٌ تكثر وتتَّسع. ونحن نذكر منها ههنا شيئاً ممَّا نختاره، فمن جيد ذلك قول كعب الأشقريّ أو غيره من شعراء خراسان في أيَّام الفتوح، يقول في قلعةٍ افتتحها المسلمون:

محلِّقةٌ دونَ السَّماءِ كأنَّها ... غمامةُ صيفٍ زالَ عنها سحابُها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015