أخذ هذا المعنى الخريميّ فقال:

إذا المرءُ وفَّى الأربعينَ ولم يكنْ ... له دون ما يهوَى حياءٌ ولا سترُ

فدعهُ ولا تنفِسْ عليهِ الَّذي أتَى ... وإنْ جرَّ أذيالَ الحياةِ له الدَّهرُ

ذو الإصبع العدوانيّ:

ليَ ابنُ عمٍّ على ما كانَ من خُلقٍ ... مُختلفانِ فأقْلِيه ويَقْليني

أزْرَى بنا أنَّنا شالتْ نعامتُنا ... فخالَني دونَه بل خِلتُهُ دونِي

يا عمرُو إنْ لا تدعْ شتمِي ومنقَصَتِي ... أضربْكَ حتَّى تقول الهامةُ اسقُونِي

لاهِ ابنُ عمِّكَ ما فُضِّلتَ في نسبٍ ... عنِّي ولا أنتَ ديّاني فتخْزونِي

ولا تَقوتُ عِيالي يومَ مسغبةٍ ... ولا بنفسكَ في العزّاءِ تكفينِي

إنِّي لعمرُك ما بابي بذِي غلقٍ ... عن الصَّديقِ ولا خَيري بمَمْنونِ

عفٌّ يَؤوسٌ إذا ما خفتُ من بلدٍ ... هُوناً فلستُ بوقَّافٍ على الهونِ

عنِّي إليكَ فما أُمِّي براعيةٍ ... ترعَى المَخاضَ ولا رأْيِي بمغبونِ

كلُّ امرئٍ راجعٌ يوماً لشيمتِهِ ... وإنْ تخلَّقَ أخلاقاً إلى حينِ

فإنْ عرفتُم سبيلَ الرُّشدِ فانْطلقوا ... وإن جهلتمْ سبيل الرُّشدِ فأْتُونِي

ماذا عليكم وإنْ كنتم ذوِي رَحِمِي ... أنْ لا أُحبُّكمُ إذْ لمْ تحبُّونِي

اللهُ يعلمُني واللهُ يعلمكُم ... والله يجزيكُم عنِّي ويَجْزيني

قد كنتُ أُوتيكُم مالِي وأمنحُكُم ... ودِّي على مُثبتٍ في الصَّدرِ مكنونِ

لا يُخرجُ الكُرهُ منِّي غيرَ مَأرَبتي ... ولا أَلينُ لمنْ لا يبتغِي لِينِي

أمَّا قوله: " عفٌّ يؤوسٌ " البيت، فكثير متّسع للقدماء والمحدثين، فمن ذلك:

إذا دارٌ نبتْ بك فاطَّرحْها ... فدارُ السَّوءِ ليسَ بها ثواءُ

وما بعضُ الإقامةِ في بلادٍ ... يُهانُ بها الفتَى إلاَّ عناءُ

مثله للوليد بن عطيَّة:

إذا خفتَ من دارٍ هواناً فلا تقِمْ ... بها وأنتَ عمَّا فيه عنك غناءُ

فإنَّك إنْ تشطُطْ بكَ الدَّارُ يتَّسعْ ... لذلك أرضٌ غيرُها وسماءُ

مثله آخر:

فْإنْ بنتِ عنِّي أو تُريدي إهانةً ... أجدْ عنكِ في الأرضِ العريضة مذهبا

فلا تحسبنَّ الأرضَ باباً سددتِه ... عليَّ ولا أمَّا أراها ولا أبا

مثله آخر:

إذا نَبا بي منزلٌ جُزْتُهُ ... واعتضتُ منه منزلاً أسهلا

وإنْ سئمتُ المكثَ في بلدةٍ ... قوَّضتُ عن ساحتها الأرْحُلا

سَبرة بن أبي عُيينة الأبجر:

ومن يبتْ والهمومُ قادحةٌ ... في قلبهِ بالزّنادِ لم ينمِ

ومن يرَ الّحضَ في مواطئهِ ... ينزلْ عن الدّحضِ موطئ القدمِ

وله أيضاً:

رضيتُ من القدرِ والفائداتِ ... إذا ضمَّك المجلسُ الحافلُ

بتسليمةٍ كلَّ خمسٍ وستٍّ ... وهل يرضينَّ بذا عاقلُ

عليك السَّلامُ فإنِّي امرؤٌ ... إذا ضاقَ بي بلدٌ راحلُ

وقال سُويد بن الحارث:

لعمري لقد نادَى بأرفعِ صوتهِ ... نعيّ حوى أنَّ فارسكُم هوَى

أجلْ صادقاً والقائلُ الفاعلُ الَّذي ... إذا رامَ أمراً أنبطَ الماءَ في الصَّفَا

فتًى قبَلٌ لم تُعنس السِّنُّ وجههُ ... سوَى شهبٍ في الرَّأس كالفجرِ في الدُّجَى

أشارتْ له الحربُ العوانُ فجاءهَا ... سريعاً غداةَ الرَّوع أوَّلَ من أتَى

ولم يجنِها لكنْ جناها ابنُ عمِّه ... فآساهُ منقاداً فكان كمن جنَى

هذا مثل قول الآخر:

جنَى ابنُ عمّك ذنباً فابتُليتَ بهِ ... إنَّ الفتَى بابنِ عمّ السَّوءِ مأخوذُ

جوَّاس بن القعطل:

بكِّي على قتلَى القُبور فإنَّهم ... طالتْ إقامتُهم ببطنِ بَرامِ

كانوا على الأعداءِ نارَ حفيظةٍ ... ولقومهم حرَماً من الأحرامِ

لا تهلكِي جزعاً فإنِّي واثقٌ ... بسيوفنا وعواقب الأيَّامِ

عمرو بن مرَّة القَينيّ:

لقد ماتَ بالبيداءِ من جانبِ الحمَى ... فتًى كانَ زَيناً للمواكبِ والشّربِ

تظلُّ بنات العمّ والخال حولهُ ... صواديَ لا يروَين بالباردِ العذبِ

يُهلنَ عليه بالأكفِّ من الثَّرى ... وما من قلًى يُحثى عليه من التُّربِ

مرَّة بن سويد الجرميّ:

أذهبَ الموتُ صالحَ اللاحقيِّي ... نَ فلمْ يُبقِ منهمُ لاحقيَّا

لا هنيّا ولا مريّا ليَ العَي ... شُ وقد كانَ لي هنيّا مرِيّا

مسعود بن مالك الجرميّ:

نعَى النَّاعِي أبا قطن سُويدا ... ووافانا بمصرَعه البريدُ

تركتُم فارساً غادَرْتُموهُ ... تعاورهُ الفوارسُ والحديدُ

لقد وارَى ثراكَ فتًى كريماً ... وأوْصالاً بهنَّ دمٌ وجُودُ

وله:

ألا لا فتًى بعد ابن ناشرَة الفتَى ... ولا مجدَ إلاَّ قد تولَّى وأدبَرَا

فتًى حنظليٌّ ما تزال يمينهُ ... تعرّفُ معروفاً وتُنكرُ مُنكرا

لحَى اللهُ قوماً أسلموكَ وجرّدوا ... عناجيجَ أعطتها يمينكَ ضُمَّرا

منافع بن ميمون:

أبعدَ بني عمرٍو أُسَرُّ بمُقبلٍ ... من العَيش أو آسَى على إثْر مُدبرِ

وليس وراءَ الشيءِ شيءٌ يردُّهُ ... عليكَ إذا ولَّى سوَى الصَّبر فاصْبِرِ

سلامٌ بني عمرٍو على حيثُ أنتمُ ... وإنْ لم تكونوا غير تربٍ وأقبُرِ

ابن الدُّمَيْنة:

أمَا والَّذي حجَّت له العيسُ وارتَمَى ... لرضوانهِ شُعثٌ طويلٌ ذميلُها

لئن دائراتُ الدَّهر يوماً أردنَ لِي ... على أُمّ عمرٍو نوبةً لا أُقيلُها

وله أيضاً:

خليليَّ من عوفٍ عفا اللهُ عنكما ... ألِمَّا بها إنْ كانَ يرجَى كلامُها

وإنَّ مَقيلاً عند ظمياءَ ساعةً ... لنا خلفٌ من لومةٍ سنُلامُها

ابن الطَّثرية:

عزَّيتُ نفساً عن هواكِ كريمةً ... على ما بها من لوعةٍ وغليلِ

بكتْ ما بكتْ من شجوِها ثمَّ راجعتْ ... لعرفان هجرٍ من نواك طويلُ

السَّمهري بن جحدر العُكليّ وكان لصّاً فحُبس في سجن المدينة:

لقدْ جمعَ الحدَّادُ بين عصابةٍ ... تساءلُ تحتَ اللَّيل ماذا ذنوبُها

مقرَّنة الأقدام في السّجن تشتكِي ... ظنابيبَ قد أمستْ متيناً علوبُها

إذا حرَسيٌّ قعقعَ الباب أرعشتْ ... فرائصُ أقوامٍ وطارتْ قلوبُها

بمنزلةٍ أمَّا اللَّئيمُ فشامتٌ ... بها وكرامُ النَّاسِ بادٍ شحوبُها

ألا ليتَنِي من غيرِ عُكلٍ قَبيلتي ... ولم أدرِ ما شُبَّانُ عُكلٍ وشيبُها

قُبيِّلة لا يقرع البابَ وفدُها ... لخيرٍ ولا يأتي السَّدادَ خطيبُها

فإنْ يكُ عكلٌ سرَّها ما أصابَني ... فقد كنتُ مصبُوباً على ما يريبُها

شُتَيم بن خُويلد الفزاريّ:

سائلْ عُقَيلا عنَّا وإخوتَهم ... بني تميمٍ ففيهمُ الخبرُ

في أيِّ عِيصٍ وشوكةٍ وقعُوا ... وأيّ قومٍ بعزِّه ذُعروا

ولَّوا وأرماحُنا حقائبُهم ... نُكرِهُها فيهمُ وتَنأَطرُ

فَروة بن مُسَيك المُراديّ:

مررنَ على لُفَاتَ وهنَّ خُوصٌ ... يُبارين الأعنَّة ينتَحِينا

فإنْ نَهزمْ فهزَّامون قدماً ... وإنْ نُغلبْ فغيرُ مُغلَّبينا

وما إنْ طِبُّنا جُبنٌ ولكنْ ... مَنايانا ودولةٌ آخَرينا

ومَن يُغررْ بريب الدَّهر يوماً ... يجدْ ريبَ الزَّمان له خَؤونا

فأفنَى مرَّةً ساداتِ قومي ... كما أفنَى القرون الأوَّلينا

فلو خَلَد الملوكُ إذاً خلَدْنا ... ولو بقيَ الكرامُ إذاً بَقينا

مُحرز بن المكعبر:

ناديتُ زيداً فلم أفزعْ إلى وكَلٍ ... رثِّ السِّلاح ولا في الحيِّ مكثورِ

سالتْ عليهِ شعابُ الحيّ حينَ دعا ... أصحابَه بوجوهٍ كالدَّنانيرِ

القتَّال الكلابيّ وكان من الفتَّاك فأُخذ في جنايةٍ جناها فطال حبسه وضجر فقتل السجَّان وهرب فقال:

نظرتُ وقد جَلى الدُّجَى طامسَ الصُّوَى ... بسَلْعٍ وقرنُ الشَّمس لم يترجَّلِ

ألا حبَّذا تلك البلادُ وأهلُها ... لَوَ انَّ عذابي بالمدينةِ ينجلِي

أقولُ لأصحاب الحديدِ تقرَّبوا ... إلى نارِ ليلَى بالحمومين نصطَلي

يُضيء سناها وجهَ ليلَى كأنَّما ... يُضيء سناها وجهَ أدماءَ مُغزِلِ

بدتْ بين أستارٍ عِشاءً تلفُّها ... مراوحُ من ريحَيْ جنوبٍ وشمألِ

يكادُ بإثقابِ اليلنجوج جمرُها ... يُضيء إذا ما سِترُها لم يُجلَّلِ

ومندون حيثُ استوقدتْ هَضْب شابةٍ ... وهضبِ شَرَوْرَى كلُّ عَيطاءَ عيطلِ

تَبيض الحمام الوُرقُ في جَنَباتها ... ويُحرز فيها بَيضَه كلُّ أجدلِ

ولمَّا رأيتُ البابَ قد حالَ دونه ... وخفتُ لَحاقاً من كتابٍ مؤجَّلِ

رددتُ على المكروه نفساً شرِيسةً ... إذا وطِّنتْ لم تستقدْ لتذلُّلِ

إذا قلتُ رفِّهْني من السّجن ساعةً ... تُتِمُّ بها نُعمَى عليَّ وتُفضِلِ

يَشدُّ وثاقِي عابساً ويتُلُّني ... إلى حلقاتٍ في عمودٍ مرمَّلِ

أقولُ لهُ والسَّيف يقحفُ رأسَهُ ... أنا ابنُ أبي أسماءَ غيرَ تنحُّلِ

عرفت نداي من نداه وشيمتي ... وريحاً تغشَّاني إذا اشتدَّ مِسجَلِي

أما قوله: " أقول له والسَّيف " البيت، فمثل قول دريد:

أقولُ لهُ والرُّمحُ يأطِرُ متْنَه ... تأمَّلْ خُفافاً إنَّني أنا ذالِكا

حميد الأرقط وكان هجَّاءً للضيوف:

أواثبُ ضَيفي حين يُقبلُ طارقاً ... بسَيفي ولا أرضَى بما صنعَ الكلبُ

وأضربُهُ حتَّى يقولَ قتلْتَني ... على غيرِ جرمٍ قلتُ قلَّ لك الضَّربُ

وله أيضاً:

إذا ضافَني ضيفٌ سلبتُ ثيابَهُ ... وإنْ كانَ ذا طِرفٍ أقامَ على الخَسفِ

أحذّرُهُ أنْ لا يعودَ لمثلِها ... فإنْ عادَ عُدْنا في الجهالة والعنفِ

مثله لغيره:

وإنَّا لنجفو الضَّيف من غير عُسرةٍ ... مخافة أن يضرَى بنا فيعودُ

قال: تزوج عبد الله بن إسحاق الجعفري بأُمّ الحسام المرّية فنقلها من البادية إلى المدينة، فكانت معه في أرفع عيشٍ إلاَّ أنَّها كانت كثيرة الذِّكر للبادية والشَّوق إليها. قال عبد الرحمن بن إسحاق: وكان لي موضع يقرب من المدينة قد غرستُ فيه بستاناً حسناً واخترت له أنواعاً من النَّخل وعملت فيه صهريجاً بديعاً قال: فخرجت أنا وأُمّ الحسام إلى هذا المكان وقصدنا البستان، فلمَّا نظرت إلى الصهريج جلست عليه وأرسلت رِجليها في الماء، فقلت لها: ألا تطوفين معنا على النَّخل لنجني ما طاب من ثمره، قالت: ههنا أعجل إلي، فدرنا ساعة وهي على الصهريج ثمَّ انصرفنا إليها وهي تحرك شفتيها، فقلت لها: يا أمّ الحسام لا أحسبك إلاَّ وقد قلت شيئاً، قالت: أجل! وأنشدتني:

أقول لأدنَى صاحبيَّ أُسرُّه ... وللدَّمعِ تحدار المكَحَّلِ ساكبُهْ

لعمري لنهيٌ باللّوى نازحُ القذَى ... نقيُّ النواحي غيرُ طرقٍ مُشاربُهْ

أحبُّ إليَّ من صهاريجَ مُلِّئتْ ... للعبٍ فلم تحسنْ لديَّ ملاعبُهْ

فيا حبَّذا نجدٌ وطيب ترابِهِ ... إذا هضبتْهُ بالعشيِّ هواضبُهْ

وريح صبا نجدٍ إذا ما تنسَّمتْ ... ضحًى أو سرتْ جنحَ الظَّلام جنائبُهْ

بأجرَعَ مِمْراعٍ كأنَّ رياحَهُ ... سحابٌ من الكافور والمسكُ شائبُهْ

فأشهدُ لا أنساهُ ما دمتُ حيَّةً ... وما انحازَ ليلٌ عن نهارٍ يُعاقبُهْ

ولا زالَ هذا القلبُ حلفَ صبابةٍ ... بذِكراه حتَّى يترك الماءَ شاربُهْ

قال: ولما زُفَّت ميسون ابنة بحدل الكلبيَّة إلى معاوية بن أبي سفيان من بادية كلْب تشوَّقت إلى البادية فقالت:

لَبَيتٌ تخفقُ الأرواحُ فيه ... أحبُّ إليَّ من قصرٍ منيفِ

وأصوات الرِّياح بكلِّ فجٍّ ... أحبُّ إليَّ من نقرِ الدُّفوفِ

وبكرٌ يتبعُ الأظعانَ صعبٌ ... أحبُّ إليَّ من هرٍّ ألوفِ

ولبسُ عباءةٍ وتقرَّ عَيني ... أحبُّ إليَّ من لبسِ الشُّفوفِ

وخرقٌ من بني عمِّي نحيفٌ ... أحبُّ إليَّ من علجٍ عليفِ

فلما سمع معاوية هذه الأبيات قال: ما رضيتْ واللهِ ابنة بحدل حتَّى جعلتني عِلجاً عليفاً.

قال: وغزا بعض الأعراب البحر من ناحية صُور وكان الوالي الَّذي أغزاه الأسود بن بلال بن أبي بردة، فلما رأى أهوال البحر كاد عقله أن يزول ثمَّ تماسك وقال:

أقولُ وقد ولَّى السَّفينُ مُلجِّجاً ... وقد بعدتْ بعد التَّقرُّبِ صورُ

وقد عصفتْ ريحٌ وللمَوج هزَّةٌ ... وللبحر من تحت السَّفين هديرُ

ألا ليت أجري والعطاءَ معاً لهم ... وحظِّي قُتودٌ في الزّمام وكُورُ

فللهِ رأيٌ قادني لسفينةٍ ... وأخضَر موَّارِ السَّراة يَمورُ

ترَى متنَه سهلاً إذا الرِّيحُ أقلعتْ ... وإنْ عصفتْ فالسَّهلُ منه وعورُ

فيا بنَ بلالٍ للضَّلال دعوتَني ... وما كانَ مثلي في الضَّلالِ يسيرُ

لئنْ وقعتْ رِجلايَ في الأرضِ مرَّةً ... وكانَ بأصحاب السَّفين كرورُ

ليعترضنَّ اسمي لدى العَرضِ خِلفةً ... وذلك إنْ كانَ الإيابُ يسيرُ

الصمَّة القُشيريّ:

خليليَّ إنِّي واقفٌ فمسلِّمٌ ... على النِّير فارْتاحا قليلاً فسلِّما

فإنِّي أحبُّ النِّيرَ والبرقَ الَّتي ... بها النِّيرُ حبّاً خالطَ اللَّحمَ والدّما

فلو زال هضبُ النِّير عن سكَناتهِ ... ليمَّمتُ من وجدٍ به حيثُ يمَّما

ولو كلَّمتْ صُمُّ الجِبال بموطنٍ ... صديقاً لحيَّانا إذنْ وتكلّما

معنى البيت الأخير من هذه الأبيات كثير جدّاً للمتقدمين والمحدثين فمن أحسن ذلك قول العرجيّ وقد رُوي لعمر بن أبي ربيعة:

ولهنَّ بالبيت العتيق لُبانةٌ ... والرُّكْن يعرفهنَّ لو يتكلَّمُ

لو كانَ حيّاً قبلهن ظعائناً ... حيَّا الحطيمُ وُجوههنَّ وزمزَمُ

ومثله للفرزدق وقد رُوي لغيره:

هذا الَّذي تعرف البطحاءُ وطأتَهُ ... والبيتُ يعرفُهُ والحِلُّ والحرَمُ

يكاد يُمسكهُ عِرقانَ راحتهِ ... ركنُ الحطيم إذا ما جاءَ يستلمُ

ومن أجود ما قيل في هذا المعنى قول البحتري:

ولوَ انَّ مشتاقاً تكلَّف فوقَ ما ... في وسعه لمشَى إليك المنبرُ

ولبعض إخواننا وذكر قوماً غابوا عن بلدة ثمَّ عادوا إليها وهو من نادر هذا المعنى:

غِبتُم فلو نطقتْ بكت وقدمتمُ ... فلوِ استطاعتْ رحَّبتْ بالعِيرِ

فلاتّساع نظائر هذا المعنى وكثرتها اقتصرنا منها على القليل ولو أردنا أن نورد منها ما يكثر ويتسع لقدرنا على ذلك ولكن شرطنا أن نأتي من النظائر الَّتي تكثر وتتَّسع القليل لشهرتها ومعرفة النَّاس بها.

وللصمَّة أيضاً:

ألا مَن لنفسٍ مستخفٍّ جليدُها ... وسلمَى مُبينٌ بُخلها وصدودُها

أحقّاً عبادَ الله أنْ لستُ ناظراً ... إلى الهضْب إلاَّ عاودَ النَّفسَ عيدُها

وإلاَّ استهلَّتْ عبرةٌ بعدَ زفرةٍ ... يصدِّعُ قلبي أنْ يلمَّ صعودُها

وإنْ كنتُ قدْ عُلِّقتُ من ساكن الحمَى ... مكذِّبةً وعدي صدوقاً وعيدُها

ولو طلبتْ منِّي على ذاكَ في الهوَى ... زيادةَ حبٍّ لم أجدْ ما أزيدُها

ألا قاتلَ اللهُ الهوَى بعد نظرةٍ ... أفادَكَها يومَ اللّقاء مفيدُها

فأخفيتُ من أصحابيَ الشَّوق بعد ما ... جرَى من جفونِ المقلَتين فريدُها

وكانَ بكاءُ العَين من قبلِ ما يُرَى ... على أُمِّ عمرٍو عادةً تستعيدُها

لياليَ يدعوني الهوَى فأُجيبُهُ ... ودُنيايَ لم يَخلقْ عليَّ جديدُها

فأصبحتُ قد حَلأتُ عن منهل الصِّبا ... صواديَ من قلبي ظِماءً أذودُها

أمَّا قوله: " ولو طلبت مني " البيت، فمثل قول البحتري:

ذاتُ وجهٍ لوِ استزادتْ من الحُسْ ... نِ إليه لمَا أصابتْ مَزيدَا

حاتم الطَّائيّ:

لعمرُ أبيكِ الخيرِ أحرِمُ طارقاً ... بليل إذا ما أرشدتْهُ النَّوابحُ

تخطَّى إليَّ اللَّيلَ إمَّا دلالةً ... عليَّ وإمَّا أيَّدتهُ النَّواصحُ

بشر بن أبي خازم الأسدي:

ألا بانَ الخليطُ ولم يُزارُوا ... وقلبُك في الظَّعائن مُستطارُ

أُسائلُ صاحبي ولقدْ رآني ... بصيراً بالأحبَّةِ حيثُ سارُوا

فلأياً ما قصرتُ الطَّرفَ عنهم ... على وجدٍ وقد تَلَعَ النَّهارُ

يفلِّجنَ الشِّفاهَ عنِ اقحُوانٍ ... جَلاهُ غِبَّ ساريةٍ قطارُ

وفي الأظعانِ آنسةٌ لعوبُ ... تيمَّمَ أهلُها بلداً فسارُوا

فبتُّ مسهَّداً أرِقاً كأنِّي ... تمشَّتْ في مفاصليَ العُقارُ

أُراقبُ في السَّماءِ بنات نعشٍ ... وقد عُطفتْ كما عُطف الصُّوارُ

فإنْ تكنِ العُقيليَّاتُ شطَّتْ ... بهنَّ عن المُصافين الدِّيارُ

فقد كانتْ لنا ولهنَّ حتَّى ... زَوتْنا الحربُ أيَّامٌ قصارُ

لياليَ لا أُطاوعُ من نَهاني ... ويضْفُو فوقَ كعبيَّ الإزارُ

فأعْصي عاذلِي وأُصيبُ لهواً ... وأُوذِي في الزِّيارة مَن يغارُ

السفَّاح بن بُكير اليربوعيّ:

يا فارساً ما أنتَ من فارسٍ ... موطَّأَ البيت رحيبَ الذِّراعْ

قوَّالَ معروفٍ وفعَّالِه ... عقَّارَ مثنَى أُمَّهاتِ الرِّباعْ

يجمعُ حِلماً وأناةً معاً ... وربَّما انْباعَ انْبياعَ الشُّجاعْ

يَعدو فلا تكذبُ شدَّاتُهُ ... كما عدا اللَّيثُ غداةَ المِصاعْ

لا يخرجُ الأضيافُ من بيتِهِ ... إلاَّ وهم منه رِواءٌ شِباعْ

وفارسٍ باغٍ على قارحٍ ... ذي مَيعةٍ بالرُّمحِ صُلبِ الوِقاعْ

نهنهتُهُ عنكَ وحوضُ الرَّدَى ... يُوردُهُ كلُّ كميٍّ شجاعْ

ضَمرة بن أبي ضَمرة النهشليُّ:

ومُشعَلةٍ باللَّيل نهنهتُ وردَها ... إذا لم يذُدْ خوفَ المنيَّة ذائدُ

لدَيها الكُماةُ والحديدُ فمنهمُ ... مَصيدٌ بأطرافِ الرِّماحِ وصائدُ

أُذيقُ الصَّديقَ رأفتي وتعطُّفي ... وقد يشتكي منِّي العداةُ الأباعدُ

وذي تِرَّةٍ ناضلتُهُ فسبقتُهُ ... وقصَّر عنِّي سعيُهُ وهْوَ جاهدُ

وقرِنٍ تركتُ الطَّيرَ يَحجُل حولَه ... عليه نجيعٌ من دم الجَوف جاسِدُ

وطارقِ ليلٍ كنتُ وجهَ مَبيتِهِ ... إذا قلَّ في الحيِّ الجميع الرَّوافدُ

وقلتُ له أهلاً وسهلاً ومرحباً ... وأكرمتُهُ حتَّى غدا وهْوَ حامدُ

وما أنا بالسَّاعي ليُحرزَ نفسهُ ... ولكنَّني عن عورةِ الحيّ ذائدُ

عَوف بن الخَرِع التَّيميّ:

لعمرُك إنَّني لأخو حِفاظٍ ... وفي يومِ الكريهةِ غيرُ غُمرِ

وما بي فاعْلَميه من خُشوعٍ ... إلى أحدٍ ولا أُزهَى بكبْرِ

سِنان بن أبي حارثة المُرِّي:

إنْ أُمسِ لا أشتكي نُصبي إلى أحدٍ ... ولستُ مهتدياً إلاَّ معِي هادِ

فقد صَبَحتُ سوامَ الحيّ مُشعلةً ... رَهواً تطالعُ من غورٍ وأنْجادِ

وقد يسَرْتُ إذا ما الشَّولُ روَّحها ... بردُ العشيِّ بشفَّانٍ وصُرَّادِ

ثُمتَ أطعمتُ زادي غيرَ مدَّخرٍ ... أهلَ المحلَّة من جارٍ ومن جادِ

قد يعلَم القومُ إذ طالتْ غَزاتهُمُ ... وأرْمَلوا الزَّادَ أنِّي منفذٌ زادِي

علقمة بن عَبَدة من قصيدةٍ:

وفي الحيِّ بيضاءُ العوارض ثوبُها ... إذا ما اسْبكرَّتْ للشَّباب قشيبُ

إذا غابَ عنها البعلُ لم تُفشِ سرَّهُ ... وتُرضي إيابَ البعلِ حين يؤوبُ

فلا تعدِلِي بيني وبين مُغمَّر ... سفَتْكِ رَوايا المُزنِ حيث تَصوبُ

سقاكِ يمانٍ ذو حَبِيٍّ وعارضٌ ... تَروحُ به جنحَ الظَّلام جَنوبُ

يقول فيها:

فإنْ تسألوني بالنّساء فإنَّني ... عليمٌ بأدْواء النّساءِ طبيبُ

إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قلَّ مالُه ... فليسَ له من وُدّهنَّ نصيبُ

يرِدنَ ثراءَ المالِ حيثُ علِمْنَهُ ... وشرخُ الشَّباب عندهنَّ عجيبُ

حدَّثنا أبو بكر أحمد بن منصور المعروف بابن الخيَّاط النحويّ، رحمه الله، قال: أخبرني صَعوداً قال: كنَّا في مجلس أبي عكرمة الضَّبِّيّ، وكان أعلم النَّاس بأشعار العرب وأرواهم لها على شراسة كانت في خُلقه، فرأيناه نشيطاً فقلنا له: ما نظنّ أنَّ للعرب قصيدةً في صفة الحرب مثل قصيدة قيس ابن الخطيم الَّتي أوّلها:

أتعرفُ رسماً كاطِّراد المذاهبِ ... لعَمْرةَ وحْشاً غيرَ مُوقِفِ راكبِ

فقال لنا أبو عكرمة: ويخلق ما لا تعلمون، فعلمنا أن عنده شيئاً يريد أن يفيدناه فقلنا له: وما ذاك، يا أستاذ؟ قال: للعرب قصيدتان في وصف الحرب ما لهم مثلهما، قلنا: ما هما؟ قال: قصيدة الرَّبيع بن زياد العبسيّ وهي:

جاءُوا معاً فيلقاً جأواءَ مُشعَلَةً ... للموت تُمري وللأبطال تقتسرُ

صَريفُ أنيابها صوتُ الحديد إذا ... فَضَّ الحديثَ بها أبناؤها الوُفرُ

ودَرُّها الموتُ يُقرَى في مخالبها ... للوارِدين يوفِّي شربَهُ القَدَرُ

منِ امْتراها مَرَتْ كفَّاه حتفَهما ... أوِ اجْتلاها بدا منها له غِيرُ

في جوّها البِيضُ والماذيُّ مختلطٌ ... والجُردُ والمُردُ والخطِّيَّةُ السُّمرُ

حتَّى إذا واجَهَتْهم وهْيَ كالحةٌ ... شوهاء منها حِمامُ الموت ينتظرُ

جاءتْ بكلِّ كمِيٍّ مُعلِم ذَكَرٍ ... في كفِّه ذَكَرٌ يسعَى به ذكرُ

مُستوردين الوغَى للموت ردُّهم ... يوم الحفاظ على ذُوّادهم عَسِرُ

لهم سرابيلُ من ماءِ الحديدِ ومن ... نضحِ الدِّماءِ سرابيلٌ أُخرُ

مُظاهَراتٌ عليهم يوم بأسِهم ... لَونانِ جُونٌ وأُخرَى فوقها حمُرُ

في يومِ حتفٍ يُهالُ النَّاظرون بهِ ... ما إنْ تبِينُ به شمسٌ ولا قمرُ

فالبِيضُ يهتفْنَ والأبصارُ طامحةٌ ... ممَّا ترَى وخدودُ القومِ تنعفرُ

نكسوهمُ مُرهفاتٍ غيرَ مُحدثةٍ ... يشفِي اختلاسُ ظُباها مَن به صَعَرُ

هنديَّة كاشتعالِ البرقِ يعصِمُهم ... بها مغاويرُ عن أحسابهم غُيُرُ

أمَّا قوله: " جاءتْ بكلِّ كمِيٍّ مُعلِم ذَكَرٍ " البيت، فقد أتى به عمرو بن معدي كرب ولا يُدرى أيّهما أخذ من صاحبه، قال عمرو:

ذَكَرٌ على ذكرٍ يصولُ بأبيضٍ ... ذكَرٍ يمانٍ في يمينِ يمانِ

وأخذه مسلم بن الوليد فقال:

صمصامةٌ ذكَرٌ من تحتِه ذكَرٌ ... في كفِّه ذكَرٌ يَفري به الهامَا

قال أبو عكرمة: والقصيدة الأخرى الَّتي في صفة الحرب قصيدة ابن أحمر السّعديّ:

إذا الفيلق الجأواء صاحتْ كُماتُها ... صياحاً وأبدتْ عن نواجذها الخضرِ

وحرَّشَها أبناؤها فتحلَّبتْ ... عليهم دماً يُمَرَ بخطِّيَّةٍ سمرِ

وقد نازَلوها بالقنا فتنازَعوا ... لدَى نحرِها كأساً أمرَّ من الصَّبرِ

يُديرونها والقوم تلَقَ صدورهمْ ... صدورَ القنا والموتُ أدَنَ من الشِّبرِ

بموقف حتفٍ والمنايا شوارعٌ ... مع القوم لا يعرُون عنها ولا تُعرِي

وصُمُّ القنا يفلِقْنَ حَبَّ قلوبهم ... على حنَقٍ والخيلُ حاميةُ الحُضرِ

وقد صدَقُوا إهمادَ ضربٍ كأنَّهُ ... أجيجُ حريقٍ هاجَ مُضطرِمُ السَّعرِ

مع الصُّبح هاجوا ثمَّ أضحَوا ونارُهم ... تُشَبُّ وأمَسَى الشُّهبُ يَرْدين كالشُّقْرِ

وأمسَى العذاَرَى البِيضُ يهتفنَ حُسَّراً ... قياماً وأمسَى الحيُّ يَغبطُ ذا القبرِ

وأضحَوا يخوضونَ النَّجيع قدِ ارْتَدوا ... على الحَلق الماذيّ بالعلَق الحُمرِ

وقد قُطعتْ أعضادهُم وتقطَّعتْ ... بأيديهم البِيض الخفاف من البُهرِ

فما زالَ هذا دأْبَهم وفعالَهم ... بلا حاجزٍ للفجرِ يوماً إلى الفجرِ

قال صعودا: فلمَّا رأينا نشاطه سألناه عن أطبع قصيدة للعرب وأحسنها رونقاً وأكثرها ماءً، فقال لنا: لقد أكثرتم وأطلتم وسأنشدكم قصيدة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015