إذا حلَّفوني بالإلهِ منحْتُهم ... يميناً كسحق الأتْحَميّ الممزَّقِ

وإنْ حلَّفوني بالعَتاق فقد درى ... دُهَيمٌ غُلامي أنّه غيرُ مُعتقِ

وإنْ حلَّفوني بالطَّلاق ردَدْتُها ... كأحسن ما كانتْ كأنْ لمْ تُطلَّقِ

ولآخر:

يمين كمثل مواسي المنى ... كشفتُ بها كربةَ الصَّاحبِ

عملتُ بها في نجاة المَدين ... وأعمَلُ في توبة التَّائبِ

أعرابيّ من الخوارج:

أرى المرءَ في الدُّنيا حديثاً لغيره ... إذا هو أمسى لا يُجيبُ المناديا

فكُنْ كالذي تهوى حديثاً ولا تكُنْ ... كمثل الَّذي يهواه فيك الأعاديا

وإن كنتَ تبعي عند ذي العرش حظوةً ... فلا تكُ إلاَّ مرهف السيف شاريا

أما قوله " أرى المرء في الدُّنيا " البيت، والبيت الَّذي يليه فمعنى قد تجاذبته العرب ونحن نذكر من ذلك شيئاً، فمنه:

الناسُ في الدُّنيا أحاديثُ ... تبقى ولا تبقى المواريث

فرحمةُ الله على هالكٍ ... طابَتْ له فيها الأحاديثُ

ومثله لعبد الصَّمد بن المعذَّل:

أعاذلتي أقْصِري ... أبِعْ جِدتي بالثَّمنْ

ذريني أُفِدْ بالثَّرا ... ءِ حمداً فنعم الثَّمنْ

أرى الناسَ أُحْدوثةً ... فكوني حديثاً حسَنْ

وقال آخر في مثله:

المرءُ بعد الموتِ أُحدوثةٌ ... يفنى وتبقى منه آثارهُ

يطويه من أيّامه ما طوى ... لكنّه تُنشر أسرارهُ

فأحسنُ الحالات حالُ امرئٍ ... تَطيبُ بعد الموتِ أخبارهُ

يفنى ويبقى ذكرُه بعدَه ... إذا خلَتْ من شخصه دارهُ

مثله لآخر:

نحّ عن نفسك القبيحَ وصُنْها ... وتوَقَّ الدُّنيا ولا تأمَننْها

وسيبقى الحديثُ بعدك فانظرْ ... أيّ أحدوثة تكونُ فكُنْها

مثله لآخر:

تدارَكْ غرسَ كفِّكَ يا ابنَ عمرو ... فقد أضحى بجودِك مُستغيثا

وكُنْ أحدوثةً حسُنَتْ فإنّي ... رأيتُ النَّاس كلّهمُ حديثا

مثله:

سابقْ إلى الخيراتِ أهلَ العُلى ... فإنّما الدُّنيا أحاديثُ

كلُّ امرئٍ في شأنه كادحٌ ... فوارثٌ منه وموروثُ

مثله ما أنشدنا ابن دريد لنفسه:

وإنَّما المرءُ حديثٌ بعدَه ... فكُنْ حديثاً حسناً لمنْ وعَى

ومثله للنّوبجتيّ وأنشدناه:

أرى الأحاديثَ تبقى ... لمُحسنٍ ومُسِيِّ

فكنْ حديثاً جميلاً ... تظفرْ بحظٍّ سَنيِّ

فلحس الأسود وكان شاعراً فضربه مولاه في بعض الأيام ضرباً مبرّحاً فقال:

لولا عُرَيقٌ فيَّ منْ حبشيَّةٍ ... يردُّ إباقي بعدَ حوْلٍ مُجرَّمِ

وبعد السُّرى في كلّ طخْياءَ حِنْدسٍ ... وبعدَ طُلوعي مَخْرِماً بعد مخرِمِ

علمتَ بأنّي خيرُ عبدٍ لنفسهِ ... وأنَّكَ عندي مَغنمٌ أيُّ مغنمِ

أيُبْصرني فرداً ولو كان مُفرداً ... تبيَّنَ أنَّ اللَّيثَ غيرُ مُقلَّمِ

يريد أنَّه كان وجد مع مولاه جماعة وأنَّه لو كان مفرداً مثله لعلم أنّه لا يقدر على ضربه، " تبيّن أنَّ الليث غير مقلَّم " استعارة حسنة. ومثل قوله هذا لبعض الأعراب وكان حاسراً فوقع عليه ذو سيف وأخذ سلبه فقال المسلوب:

فلو كان في كفِّي الَّذي في يمينه ... لعادَ كما قد عُدتُ مُختلَس الرَّحْلِ

ولكنْ يراني حاسراً وبكفِّه ... كمثل شعاع الشَّمس يومضُ بالقتْلِ

ففاز بأثوابي وفُزتُ بحسْرة ... لها بين أثناء الحشا لوعةٌ تَغْلي

ومثله لآخر:

وما أوثقوا منّا الأكُفَّ شجاعةً ... ولكنْ رأونا حاسرين فأقْدموا

يهزّون بيضاً لو غدتْ في أكُفِّنا ... لظلَّتْ تشظَّى فيهم وتثلَّمُ

ومثله لآخر:

أقول لحسَّانٍ وقد قاد حائراً ... رُوَيدك إنَّ السَّيفَ قاد أسيرَكا

فلا تبتهج إنَّ السيوفَ هيَ الَّتي ... تُكشِّفُ بعد اليوم عنك أمورَكا

وقال فلحس الأسود يهجو مولاه ويصفه بالتعطيل:

أغرَّك منّي أنَّ مولايَ رائد ... سريعٌ إلى داعي الطَّعام ضروطُ

غلامٌ أتاه الذُّلُّ من نحو شِدْقه ... له نسب في الواغلين وسيطُ

له نحو دوْر الكأس إمّا دعَوْته ... لسانٌ كدَوْر الزَّاعبيّ سليطُ

وإن تلقهُ في غارة الصُّبح تلْقَه ... خضيباً عليه بُرقعٌ وسُموطُ

أعرابيّ يرثي:

يروم جسيماتِ العلى فينالُها ... فتًى في جسيمات المكارمِ راغبُ

فإنْ تُمسِ وحشاً دارهُ فلرُبَّما ... تزاحمَ أفواجاً إليها المواكبُ

يحيُّونَ بسَّاماً كأنَّ جبينه ... هلالٌ بدا وانْجاب عنه السَّحائبُ

وما غائبٌ من كان يُرجى إيابُه ... ولكنَّه من غيَّبَ الموتُ غائبُ

الأصل في معنى البيت الأخير قول عبيد:

وكلُّ ذي غيبةٍ يؤوبُ ... وغائبُ الموتِ لا يؤوبُ

ومثله لآخر:

فلمْ تنأَ دارٌ من مُرَجًّى إيابُه ... وتنأى بمنْ رُصَّتْ عليه الصفائحُ

ومثله:

على الدهرِ فاعْتُبْ إنَّه غير مُعتبٍ ... وفي غيرِ من قد وارتِ الأرضُ فاطْمعِ

أعرابيّ وكانت له امرأة تُبغضه وتمنَّى موته وكانت تُشير عليه بالغزو ليُقتل ففطن لذلك وقال:

أتامرُني أُمامةُ بالمغازي ... وتذكرُ لي الَّذي غنم الجنودُ

رجاءً أنْ تُصادفَني المنايا ... ودون منيَّتي أمدٌ بعيدُ

أعرابيّ:

فلو أنَّ قومي قتَّلتْهم عِمارةٌ ... من السَّرواتِ والرّءوسِ الذَّوائبِ

صبَرْنا لما يأتي به الدَّهرُ عامداً ... ولكنَّما أوتارُنا في مُحاربِ

قبيلِ لئامٍ إنْ ظهرْنا عليهم ... وإنْ يغلبونا يوجَدوا شرَّ غالبِ

هذا من أفحش الهجاء، ومثله لآخر:

فلو أنّي بُليتُ بهاشميٍّ ... خؤولته بنو عبد المدانِ

صبرْتُ على أذيَّتِه ولكنْ ... تعالَيْ فانظُري بمنِ ابْتَلاني

ومثله لآخر:

فلو نطَحتْني ذاتُ قَرنٍ عذرتُها ... ولكنَّها جمَّاءُ ليس لها قَرْنُ

ومن أمثالهم في الوضيع يعلو على الرّفيع " فلو بذات سوار لُطِمتُ ".

أعرابي يخاطب امرأته ولامته في الخمر:

ليس الرَّزيَّة في بكرٍ شربتُ به ... في القوم يُخْلِفه كسبي وإتْياني

بلِ الرَّزيَّةُ أن تسعى مُشمِّرةً ... بحيثُ نعشي وقد أُلبستُ أكفاني

أمّا القداح فإنّي غيرُ تارِكها ... والمالُ بيني وبين الخمرِ نصفانِ

أعرابي:

زعمَتْ أُمامةُ أنَّني إمّا أمُتْ ... يسدُدْ أُبَيْنوها الأصاغرُ خَلَّتي

تربتْ يداكِ وهل رأيتِ لقومه ... مثلي على يُسرى وحين تعِلَّتي

رجلاً إذا ما النَّائباتُ غَشينه ... أكْفى لمُعضِلةٍ وإنْ هي جلَّتِ

ولقد رأبْتُ ثأَى العشيرة بينها ... وكفيتُ جانيها اللَّتيّا والَّتي

وصفحتُ عن ذي جهلها ومنحتُها ... نُصحي ولم تُصبِ العشيرةَ زلَّتي

وكفيتُ مولايَ الأجمَّ جريرتي ... وحبستُ سائمتي على ذي الخلَّةِ

قوله " الأجم " يعني الَّذي لا سلاح معه وهذا مليح ما يعرف مثله.

أعرابيّ:

لله درُّ بني ريا ... حٍ في الملمّاتِ الكبارِ

لا غرو إنَّا معشرٌ ... حامو الحقيقة والذِّمارِ

نحمي الحواصِنَ إنَّها ... قيدُ الكريمِ عن الفرارِ

هذا معنى في نهاية الحسن لا نعرف له نظيراً.

أعرابيّ:

أزالَ عظمَ ذراعي عن مركّبه ... حمْلُ الرُّدينيِّ والإدلاجُ في السَّحَرِ

حولان ما اغتمضَتْ عيني بمنزلةٍ ... إلاَّ وكفّي وسادٌ لي على حجرِ

أعرابيّ من بني أسد:

إذا هبّتْ جنوبُ المجد يوماً ... لمكْرمةٍ رفعتُ لها شراعي

تناءتْ همَّتي وصفا ودادي ... وكلّ كريمةٍ تحوي طباعي

وتحمدُ جارتي في العُسْر بذلي ... وإن أيسَرْتُ أغْناها اتِّساعي

ولم أفرَحْ بوفْر المال إلاَّ ... إذا أفْنى كرائمَهُ اصْطِناعي

أما قوله " إذا هبّت جنوب المجد " البيت، فيدلُّ على أنَّ هذا الشاعر كان ملاّحاً لأنه ذكر الجنوب وذكر الشراع في الجنوب وهذا ممَّا يعرفه الملاّحون، وهذا البيت حذو بيت الشمَّاخ الَّذي يقول فيه:

إذا ما رايةٌ رُفعَتْ لمجدٍ ... تلقَّاها عَرابةُ باليمينِ

كان ملاطم بن عوف بن بدر الفزاريّ مع عمَّيه حذيفة وحمل ابني بدر يوم الهباءة، فلمّا أوقع بهما قيس بن زهير العبسيّ ومن كان معه من قومه وقتلهما وفرَّ ملاطم عن عمَّيه وقُتلا ونجا فمرَّ بعد ذلك بنسوة كان يتحدّث إليهنّ فلمّا رأينه أعرضْنَ عنه وقلن له: فررت عن عمَّيك حتَّى قُتلا، فقال يعتذر من ذلك:

وبيضٍ من عَديٍّ كنَّ لهْواً ... إذا طال النَّهارُ على الرَّقيبِ

ذكرْنَ برؤيَتي حملَ بن بدْرٍ ... وصاحبَه الألدَّ على الخطيبِ

فقلن إليك لا لهوٌ لدينا ... إذا اشتمل المحبُّ على الحبيبِ

فلو كنتَ الأُسى أو كنتَ حُرّاً ... لمتَّ مع اللَّذَيْ يوم القليبِ

وقد آسيتُ حتَّى لا أسًى بي ... فضلَّتْ حيلةُ الرجُلِ الأريبِ

وكم من موطنٍ حسنٍ أُحيلَتْ ... محاسنُه فعُدَّ من الذُّنوبِ

أعرابيّ:

ونحن دفعنا الموتَ عند اقْترابه ... وقد برزتْ للثَّائرين المَقاتلُ

وجرَّدْتُ سيفي ثمَّ قمتُ بنصْله ... وعن أيّ نفسٍ بعد نفسي أقاتلُ

أعرابيّ:

وما انصرفَتْ عنِّي أكارمُ شيمتي ... وما كلّفتْني النَّفسُ ما هو مُدبرُ

أكونُ لنفسي أحمدَ الناسِ إنْ أتتْ ... بخير وألحاهُمْ لها حين تعثرُ

أعرابيّ:

أفَضْلَ بني الحارث الأكرمينَ ... كفرْتَ فمن بعدهم تشكرُ

همُ أنقذوك بأرماحهم ... وكنتَ من الخوف لا تُبصرُ

امرأة من بني عامر:

وحربٍ يضِجُّ القومُ من نفَيانها ... ضجيجَ الجِمال الجِلَّةِ الدَّبِراتِ

سيتركها قومٌ ويصْلى بحرِّها ... بنو نسوة للثّكل مصطبراتِ

آخر يصف سيفاً:

يكْفيك من قلع السَّماء مهنَّدٌ ... فوق الذُّراعِ ودون بَوع البائعِ

صافي الحديدة قد أضرَّ بنصله ... طولُ الدِّياس وبطنُ طيرٍ جائعِ

أُمِرَ المواطرُ والرِّياحُ بحَمْله ... فحمَلْنَهُ لمضائرٍ ومنافعِ

حمْلَ الحَصانِ من النّساءِ جنينَها ... حتَّى يتمَّ لسابعٍ أو تاسعِ

ذكرٌ برونقةِ الدِّماءُ كأنما ... يعلو الرّجالَ بأُرجُوانٍ ناصعِ

يمضي من الحَلق المضاعَف نسجهُ ... ومن الحُشاشةِ فوق نزع النّازعِ

وترى مضاربَ شفرتيه كأنّها ... مِلْحٌ تناثر من وراءِ الدّارعِ

أعرابيّ يصف نخلاً:

بنات الدَّهر لا يخشَيْن محْلاً ... إذا لم تبقَ سائمةٌ بَقينا

خرقْن الأرضَ عن أمواج بحر ... طلَبْن مَعينه حتَّى رَوينا

كأنّ رؤوسَهنّ بيوم ريحٍ ... ضرائرُ بالذّوائبِ ينْتَصينا

وقال أوس بن حجر:

ولا أعتبُ ابنَ العمّ إنْ كان ظالماً ... وأغفرُ منه الجهلَ إنْ كان أجْهلا

وإن قال لي ماذا ترى يَسْتشيرُني ... يجدْني ابنُ عمٍّ مِخْلطَ الأمرِ مِزْيَلا

أُقيمُ بدار الحزْمِ ما كان حزْمُها ... وأحرِ إذا حالتْ بأن أتحوَّلا

وأستبْدِلُ الأمر القويَّ بغيرهِ ... إذا عقْدُ مأفونِ الرّجال تحلَّلا

وإنِّي امرؤٌ أعددْتُ للحرب بعدما ... رأيتُ لها ناباً من الشَّرِّ أعْصَلا

أصمَّ رُدَينيّاً كأنَّ كعوبَهُ ... نوى القسْبِ عرَّاصاً مُزجّاً مُنصَّلا

عليه كمصباح العزيزِ يشبُّهُ ... لفِصْح ويحْشوهُ الذُّبالَ المفتَّلا

وأملسَ صوليّاً كنهْيِ قرارةِ ... أحسَّ بقاعٍ نفْحَ ريحٍ فأجفلا

كأنَّ قُرونَ الشَّمسِ عند ارتفاعِها ... وقد صادفَتْ طلعاً من النَّجمِ أعْزلا

تردَّدَ فيه ضوءها وشعاعُها ... فأحصِنْ وأزينْ لامرئٍ إن تسرْبَلا

وأبيضَ هنديّاً كأنَّ غِرارهُ ... تلألؤُ برقٍ في حَبيٍّ تكلَّلا

إذا سُلَّ من غمدٍ تأكَّلَ أثْرهُ ... على مثلِ مِصْحاةِ اللُّجينِ تأكُّلا

ومضْبوعةٍ من رأسِ فَرْعٍ شظيَّةٍ ... بطودٍ تراه بالسَّحابِ مُجلَّلا

على ظهرِ صفوانٍ كأنَّ مُتونه ... عُللْنَ بدُهْنٍ يُزلقُ المُتنزِّلا

يُطيفُ بها راعٍ تجشَّمُ نفسهُ ... ليكلأ فيها طرفَه مُتأمِّلا

فلاقَ امرءاً من مَيْدعانَ وأسْمحتْ ... قَرونتُه باليأس منها وعجَّلا

فقال له هل تذكُرَنَّ مُخبِّراً ... يدلُّ على غُنْمٍ ويقصر مُعْملا

على خيرِ ما أبْصَرتها من بِضاعةٍ ... لمُلتمسٍ بيعاً لها وتبكُّلا

فُوَيقَ جُبيل شامخ الرَّأس لم يكن ... ليبْلُغه حتَّى يكلَّ ويعْملا

فأبصرَ إلهاباً من الطَّودِ دونها ... يرى بين رأسي كلّ نيقَينِ مَهْبلا

فأشرط فيها نفسه وهو مُعصمٌ ... وألقى بأسبابٍ له وتوكَّلا

وقد أكلتْ أظفارَهُ الصَّخرُ كلَّما ... تعيَّا عليه طولُ مرْقًى تسهَّلا

فما زال حتَّى نالها وهو مُشفقٌ ... على موطنٍ لو زلَّ عنه تفصَّلا

فأقبلَ لا يرجو الَّتي صعِدتْ به ... ولا نفسه إلاَّ رجاءً مؤمَّلا

فلمَّا قضى ممَّا يريدُ قضاءهُ ... وصلَّبها حرْصاً عليها فأطولا

أمرَّ عليها ذاتَ حدٍّ غُرابُها ... رفيقاً بأخذٍ بالمداوِسِ صيقَلا

على فخِذيْه من بُرايةِ عودِها ... شبيهُ سفى البُهْمى إذا ما تفتَّلا

فجرَّدها صفراءَ لا الطُّولُ عابها ... ولا قِصرٌ أزْرى بها فتعطَّلا

إذا ما تعاطَوْها سمعتَ لصَوتها ... إذا أنبضوا عنها يتيماً وأرْملا

وإن شُدَّ فيها النَّزْعُ أدبرَ سهمُها ... إلى متْنها من عجْسها ثمَّ أقْبلا

وحشْوِ جفيرٍ من فروعٍ غرائب ... تنطَّع فيها صانعٌ فتنبَّلا

تخيِّرْنَ أنضاءً ورُكِّبْنَ أنْصُلاً ... كجمر الغضا في يوم ريح تزيَّلا

فلمَّا قضى منهنَّ في الصّنع نهْمَه ... فلم يبق إلاَّ أن يسنَّ ويصقلا

كساهنَّ من ريشٍ يمانٍ ظواهراً ... سُخاماً لُؤاماً ليِّنَ المسِّ أطْحلا

فذاك عَتادي في الحروب إذا لظتْ ... وأرْدفَ بأسٌ من حروبٍ وأعْجلا

وذلك من جمعي وبالله نلْتُه ... وإن يلْقَني الأعداءُ لا ألقَ أعزلا

فإنّي وجدتُ النَّاس إلاَّ أقلَّهم ... خفافَ العهود يُسرعون التَّنقُّلا

بني أمِّ ذي المال الكثيرِ يرَونهُ ... وإن كان عبداً سيِّدَ الأمرِ جَحْفلا

وهم لمقِلّ المالِ أولادُ عَلّةٍ ... وإن كان محضاً في العشيرة مُخْولا

وليس أخوك الدّائمُ العهدِ بالذي ... يذمُّك إن ولَّى ويُرضيكَ مُقْبلا

ولكنَّه النَّائي إذا كنتَ آمناً ... وصاحبُك الأدنى إذا الأمرُ أعْضلا

وهذه القصيدة من مشهورات قصائد الشعراء في الجاهليّة وفيها معانٍ حسانٌ مخترعة ومتّبعة ونحن نذكر مع كلّ معنى شيئاً من نظائره على ما وقع به الرّسم.

أما قوله " أقيم بدار الحزم ما دام حزمها " البيت، فقد ذكرنا قطعة من نظائره فيما قدمنا وبيت أوس هذا هو الأصل ونذكر من هذا المعنى شيئاً يسيراً مما لم نذكره هناك لأنَّ هذا المعنى متى ما استقصيَ كان كتاباً مفرداً، فمن ذلك قولُ الشاعر:

وإذا الدِّيارُ تنكّرتْ عن حالها ... فدعِ الدّيارَ وبادرِ التَّحْويلا

ليس المقامُ عليك فرضاً واجباً ... في منزلٍ يدعُ العزيزَ ذليلا

ومثله لأبي دُلَف العجليّ:

ومُقام العزيز في بلد الذُّلْ ... لِ إذا أمكن الرّحيلُ محالُ

ومثله لآخر:

إذا نبتْ بي بلادٌ ... عجَّلْتُ منها ارتحالي

ولا أقيمُ بدارٍ ... تذلُّ فيها المعالي

ومثله:

سأرحلُ عن دار الهَوان مُشمِّراً ... إلى حيثُ لا ذلاًّ أخاف ولا ظُلْما

فأما قول أوس في صفة الرُّمح:

أصمّ ردينيّاً كأنَّ كعوبه ... نوى القسب عرّاصاً مزجّاً منصَّلا

فقد جمع هذا البيت أكثر الأوصاف الَّتي توصف بها الرماح، وفي ذكره نوى القسب، دون غيره من النّوى قولان: أحدهما، أراد أنَّ نوى القسب ضامرٌ غير منتشر مثل غيره من سائر النوى، يريد بذلك دقّة الرمح وصلابته، والقول الآخر أن نوى القسب أصلب من سائر النَّوى وقد ذكرته الشعراء في غير موضعٍ من أشعارها، فمنها بيت أوس هذا الَّذي ذكرنا في صفة الرمح، ومثله لآخر:

ومطّردٍ لَدْنٍ وإن كان يابساً ... كيُبْسِ نوى القسبِ العُراقِ وأصْلُبِ

والعظام الَّتي في أرساغ الخيل تُنعت أيضاً بنوى القسب وهي النسور أيضاً، قال أبو دؤاد الإياديّ وهو الأصل:

وأرساغٍ أميناتِ ... كملفوظ نوى القسْبِ

أخذه ابن دريد فقال:

إلى نسورٍ مثلِ ملفوظِ النَّوى

وإنّما ذكروا النَّوى الملفوظ لأن الشَّاء الَّتي تُعلف النّوى تلفظ نوى القسب دون غيره. والعلّة في ذلك أنّه لا يبتلُّ ويبتلُّ غيره من النّوى ولا يكون إلاَّ يابساً في جميع أحواله، وقد أخذت الشعراء من أوس معنى بيته هذا فقال بعضهم:

ومطَّردٍ لدنِ الكعوب تخالُه ... نوى القسب قد أرْبى ذراعاً على العَشْرِ

وهذا الَّذي ذكره الشاعر من طول الرمح هو الَّذي يحمد، ومنه أخذ البحتريّ:

كالرُّمْح أذرعُه عشرٌ وواحدةٌ ... فليس يُزري به طولٌ ولا قصَرُ

وقال أوس يصف السنان " عليه كمصباح العزيز يشبّه " البيت، أراد أنّ السنان شديد الإيتلاق وهو مثل مشعل الجليل العظيم الشأن من بطارقة الرّوم ولا سيّما إذا ألهبه في ليلة فصحه، وإذا كان في مثل هذه الليلة كان أنور له وأكثر لضوئه. ووصف بعد هذا الدّرع والسَّيف صفةً جيدة، ولولا أن الصفات الَّتي أتى بها في هذين النَّوعين كثيرة في أيدي النَّاس - وقد ذكرنا منها قبل هذا الموضع شيئاً - لأتينا بما يعنّ ويسنح. ولا بد من ذكر بعضها فيما يستأنف من الكتاب إن شاء الله وأما ذكره القوس ووصفه لها وحمل الَّذي قطعها نفسه على التسلّق في الجبال الوعرة والهضاب العالية حتَّى ظفر بها بعد طول الجهد ومعاناة الكدّ ثمَّ نقله إيّاه من حالٍ إلى حالٍ حتَّى بلغت نهاية ما أراد فهي صفةٌ ما نعرف لها نظيراً فنأتي به. ولقد أجاد في كل ذلك وأتى لم يتعاطه بعده أحدٌ من الشعراء في هذا المعنى من ذكر القوس خاصة، ولو أن صفته هذه وما حمّل نفسه من المكروه وعاناه من المشقّة في طلب جوهرة نفيسة أو درّة خطيرة لكان قد استغرق في ذلك مجهوده وبلغ نهاية حيلته. وله في وصف القوس وقت عملها بيتٌ أجاد التشبيه فيه وفات جميع الشعراء في جودة معناه وصحّته وهو قوله في صفة الَّذي ينحتها:

على فخذَيه من براية عودها ... شبيهُ سفى البُهْمى إذا ما تفتَّلا

ومن تأمل سفى البهمى في آخر الرَّبيع وأول الصّيف وهو وقت تفتُّله رآه أشبه الأشياء بما ذكره أوس في بيته هذا.

فأما قوله " إذا ما تعاطوها سمعت لصوتها " البيت، فهو الأصل في المعنى وعليه عوّل من أخذه، وأوّل من أخذه الشمّاخ بقوله:

إذا أنبضَ الرَّامون عنها ترنَّمتْ ... ترنُّمَ ثكلى أوجعَتْها الجنائزُ

وأخذه الشنفرى فقال:

إذا زلَّ عنها السهمُ حنَّتْ كأنَّها ... مولَّهةٌ ثكْلى ترِنُّ وتُعوِلُ

وذكر بعض الشعراء أنَّ حنين القوس عند خروج السهم عنها حزناً واغتماماً به وقال:

باكية إنْ زلَّ سهمٌ عنها ... خوفاً عليه أن يضيعَ منها

وقال آخر:

إذا تعاطاها الشديد السَّاعد ... حنَّتْ إلى السَّهمِ حنينَ الوالدِ

وقال آخر:

وصفراء طيِّعة الجانبَيْنِ ... على أنَّ فيها جميع الشَّغبْ

تحنُّ حنيناً إلى سهمها ... حنينَ المحبِّ إلى من أحَبْ

وذكر غير هؤلاء أن صوتها عند خروج السَّهم عنها عيبٌ وبيَّن ذلك بعضهم فقال:

بكرْنا عليهم نعتصي كلَّ مرهفٍ ... وكلَّ ردينيٍّ إذا هُزَّ أوعدا

وكلَّ كتوم السِّرِّ تُصمي رميَّها ... ولم تدْرِ من أيّ الجوانب أقصدا

وقال آخر:

كاتمة السِّرِّ إذا شرٌّ ظهَرْ ... إذا تولَّى السَّهمُ عنها وانْشمرْ

لم تذعُرِ الظَّبْيَ بترنيم الوتَرْ

وأتى ابن الروميّ في هذا المعنى بشيء خالف جميع الشعراء فيه وذكر أنَّ صوتها زجرٌ لسهامها والبندق الخارجَين عنها لئلاّ يطيش السهم فيقع في غير المطلوب أو تضيع البندقة بوقوعها في غير الَّذي طُلب بها وهو قوله:

لها عولةٌ أولى على من تُصيبهُ ... وأجدَرُ بالإعوالِ من كان موجعا

وما ذاك إلاَّ زجرُها لبناتها ... مخافة أن يذهبْنَ في الجوّ ضُيَّعا

فابن الروميّ وإن كان قد احتجَّ لصوتها وأنَّه زجر للبندق والسَّهم الخارجَين عنها فقد ألزمها الصوت وإن كان قد أبان الحجّة فيه والشاعران اللَّذان ذكرنا شعرهما قبل ابن الرّوميّ ذكرا أنَّها لا تُبدي صوتاً لا لبناتها ولا لغير بناتها واحتجّا في ذلك حجّةً قاطعة لا يمكن دفعها، فأمّا الَّذي أجاد في المعنى الأول الَّذي قدَّمناه لأوسٍ وأتى بما لا يجوز لأحدٍ أن يلحقه ولا يقع قريباً منه فابن الرّوميّ بقوله ووصف امرأةً:

تُشكي المحبَّ وتُلقى الدَّهر شاكيةً ... كالقوس تُصمي الرَّمايا وهيَ مرنانُ

فصار ابن الروميّ أحقّ بهذا المعنى من كلّ من أتى به قديماً وحديثاً لما أورد فيه من الزيادة وأبان من الحجّة وجعله تشبيهاً.

فأما قول أوس:

وإنْ شدَّ فيها النزع أدبر سهمُها ... إلى متْنِها من عجسها ثمَّ أقبلا

فإليه نظر ابن المعتزّ بقوله:

كما أغمدتْ أيدي الصَّياقل منصلا

أتيحَ له لهفانُ يخطمُ قوسه ... بأصفر حنّان القَرا غير أعزلا

فأودعَهُ سهماً كمِدْرى مواشط ... بعثْن به في مفرقٍ فتعللا

بطيء إذا أسرعتَ إطلاقَ فوقهِ ... ولكنْ إذا أبطأتَ في النَّزعِ عجَّلا

ومعنى ابن المعتزّ هذا زائد على معنى أوس وأملح كلاماً. وقد استقصينا الكلام على هذا البيت في كتابنا المعروف باختيار شعر ابن المعتزّ والتّنبيه على معانيه، وقد نظر إلى هذا المعنى ابن الرّوميّ أيضاً فقال:

تودَّدتُ حتَّى لم أجدْ متودَّدا ... وأملَلْتُ قرطاسي عتاباً مردَّدا

كأنّيَ أستدْني بك ابن حنيَّةٍ ... إذا النَّزْعُ أدناه إلى الصَّدرِ أبْعدا

لمّا قال النَّابغة الذُّبيانيّ:

هلاّ سألتِ بني ذبيان ما حسَبي ... إذا الدُّخانُ تغشَّى الأشمطَ البرَما

وهبَّتِ الرِّيحُ من تلقاء ذي أُرُلٍ ... تُزجي مع اللَّيل من صُرّادها صِرَما

شهب الظِّلال أنَيْنَ البينَ عن عرُضٍ ... يُزجين غيثاً قليلاً ماؤهُ شبِما

أنِّي أُتمِّمُ أيساري وأرفدهم ... مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأُدُما

عارضه قيس بن الخطيم في المعنى فقال:

هلاَّ سألتِ بني النّجار ما حسَبي ... عند الشّتاء إذا ما هبَّتِ الرّيحُ

إذا اللّقاحُ غدتْ ملقًى أصرّتُها ... ولا كريمٌ من الولدان مصبوحُ

إنِّي أتمِّم أيساري بذي أود ... فردٍ إذا حارد الشمُّ المساميحُ

سهمانِ سهمُ عيال الحيّ إن سغبوا ... والسهم سيبٌ إلى الجيران ممنوحُ

غلَّبه النَّاس على النابغة لأنه ذكر أنّه يُطعم الجيران ولم يذكر النابغة ذلك. عبد يغوث بن سنان القينيّ:

بغيتم علينا مرّةً بعد أُختها ... ونحن نُراعيكم صباحَ مساءِ

ألِكني إلى عُليا مراد رسالةً ... مبيّنةً كالشّمس رأدَ ضحاءِ

وكنتم طباق الرَّمْل عزّاً وثروةً ... وشدّةَ بأس وارتفاعَ بناءِ

فما زال البغيُ حتَّى غدوتمُ ... أهلَّةَ صيفٍ لا نجومَ شتاءِ

أما هذا البيت الأخير فقد أخذه البحتري فقال:

من بعدما كانوا كواكب طيّئٍ ... عُلْواً غدَوا وهم أهلَّةُ بحتُر

بيت البحتريّ هذا عذب اللّفظ مليح إلاَّ أنَّه بيت القينيّ بعينه، وبيت القينيّ أجود منه وفيه زيادة على بيت البحتريّ كثيرة، وذاك أنَّه ذكر في بيته الشتاء والصيف وهما معنيان مختلفان وقد بيَّنّا عن تجويدهما وما أراد الشاعر بذكرهما وأمّا البحتريّ فقال كنتم نجوماً فأصبحتم أهلّة، فمن ههنا نقص بيته عن الأول وذلك أنَّ الأول خاطب قوماً فقال: كنتم كثيراً مثل نجوم الشتاء فما زال بكم البغي حتَّى فنيتُم فصرتم مثل أهلّة الصيف وهيَ دون أهلّة الشتاء لخفائها ودقّتها وإنَّها لا تكاد تبين من كثرة الغبار الَّذي يرتفع من الأرض فيكدر له الجو ويصير بينه وبين الأرض مثل السِّتر فتخفى الأهلَّة إذا طلعت وخصَّ نجوم الشتاء دون نجوم الصيف بالذكر لأن نجوم الشتاء أصفى نوراً وأشدُّ التماعاً وأحسن ائتلافاً لقلَّة الغبار الَّذي يثور من الأرض فهي بيّنة مصقولة وليست في الصيف كذلك، فيقول: كنتم نجوم الشتاء كثرة وحُسناً فلمَّا بغيتم فصرتم مثل أهلَّة الصيف خفاءً وضؤولة، وإلى هذا المعنى أشار البحتري وإياه أراد.

أعرابيّ:

بلَوناها فلا كُشف لِئامٌ ... ولا عنَّا بأنفسهمْ شِحاحُ

كِرام عند كأسهمُ إذا ما ... أدارُوها وعند شبا الرِّماحِ

أنشدنا ابن دريد هذين البيتين فسألناه عن اختلاف قافيتهما فقال: كانت العرب لا ترى الإقواء في البيتين عيباً.

وقال عبد الله بن عبيد الله بن عمرو بن مالك الخثعميّ المعروف بابن الدُّمَينة وكان من أغزل العرب شعراً وأملحهم نسيباً:

قفِي يا أُميمَ القلبِ تَقضىِ لُبانةً ... ونشكُ الهوَى ثمَّ افعلِي ما بدَا لكِ

يقول فيها:

عدمتكِ من نفسٍ فأنتِ سقَيتِني ... كؤوس الهوَى من حبِّ مَن لم يبالكِ

هوِيتُ ولم تهوَى فأنتِ سقيمةٌ ... ولا ذنب لي أنتِ ابتليتِ بذلكِ

فما لكِ من صبرٍ وما لكِ من نُهًى ... ولا من عزاءٍ فاهلِكِي في الهوالكِ

ليهنكِ إمساكي بكفِّي على الحشَا ... ورقراقُ دمعي خشيةً من زِيالكِ

فلو قلتِ طأْ في النَّارِ أعلمُ أنَّه ... هوًى منكِ أو مُدْنٍ لنا من نوالكِ

لقدَّمتُ رِجلي نحوَها فوطئتُها ... هُدًى منكِ لي أو ضلَّةً من ضلالكِ

تعاللْتِ كي أشجَى وما بكِ علَّةٌ ... تُريدين قتلِي قد ظفرتِ بذلكِ

لئنْ ساءَني ذكراكِ لي بمساءةٍ ... لقد سرَّني أنِّي خطرتُ ببالكِ

أبِيني أفي يُمنَى يديكِ جعلتِني ... فأفرحَ أمْ صيَّرتني في شمالكِ

أحبُّ الصَّبا إن كنتِ من قِبَل الصّبا ... ونجماً أراه طالعاً من حِيالكِ

وركْبٍ شِداد الوخْد بالنَّوم مُيَّلٍ ... عمائمُهم نبَّهتهم من جلالكِ

وبي لَمَمٍ ممَّا بهم غيرَ أنَّني ... مُحبٌّ وحاجاتُ المحبِّ كذلكِ

واخترنا له من أُخرى:

إلى الله أشكو ثمَّ إليكما ... وهل تنفعُ الشَّكوَى إلى من يزيدُها

حَزازاتِ حزنٍ في فؤادي وعَبرة ... أظلُّ بأطراف البنان أذودُها

يحنُّ فؤادي من مخافة بَيْنِكم ... حنينَ المزجَّى وجهةً لا يريدُها

ولن يلبثَ الواشون أنْ يصدعوا العصَا ... إذا لم يكنْ صُلباً على البرْيِ عودُها

أما قوله: " إلى الله أشو " البيت، فقد أخذه بعضهم فقال:

وإنِّي لأشكو ما أُلاقي من الهوَى ... إلى مَن يزيدُ القلبَ سقماً إلى سقمِ

وأما قوله: " حزازات حزن " البيت، مثل قول عمارة بن عقيل:

وقد كانَ فيضُ الدَّمع يُبدي سريرتي ... ولكنَّني كفكفتُهُ بالأصابعِ

عشيَّةَ لولا الكاشحون لأُظهرتْ ... ودائعُ شوقٍ بانْسكاب المدامعِ

قال ابن الدُّمَيْنة:

إلى الله أشكو ثمَّ أَنثني فأشتكي ... غريماً لواني الدَّينَ منذُ زمانِ

لطيف الحشَا عَبل الشَّوى طيّبَ اللَّما ... له عللٌ ما تنقضي وأمانِي

فلستُ بمستعدٍ عليه بغيره ... ولا تاركاً دَيني بغير ضَمانِ

واخترنا له من أُخرى يقول فيها:

أُميمُ أمنكِ الدَّارُ غيَّرها البِلَى ... وهَيفٌ بجولان التُّراب لَعوبُ

أُميمُ بقلبي من هواكِ صبابةٌ ... وأنتِ لها لو تعلمينَ طبيبُ

لعَمري لئن أوليتِني منكِ جفوةً ... على العلم أنِّي من هواكِ كئيبُ

لبئس إذاً عونُ الصَّديق أعَنْتِني ... على نائباتٍ يا أُميمُ تنوبُ

فكوني على الواشين لدّاءَ شغبةً ... كما أنا للواشي ألدُّ شغوبُ

وإنِّي لأستحييكِ حتَّى كأنَّما ... عليَّ بظهر الغيب منكِ رقيبُ

فلو أنَّ ما بِي بالحصَى فلَقَ الحصَى ... وبالرِّيح لم يُسمع لهنَّ هبوبُ

ولو أنَّني أستغفرُ اللهَ كلَّما ... ذكرتكِ لم تُكتبْ عليَّ ذنوبُ

تضنِّينَ حتَّى يذهب البخلُ بالمُنَى ... وحتَّى تكاد النَّفسُ عنكِ تطيبُ

أحقّاً عباد الله أنْ لستُ وارداً ... ولا صادراً إلاَّ عليَّ حسيبُ

ولا زائراً فرداً ولا في جماعةٍ ... من النَّاسِ إلاَّ قيل أنتَ مُريبُ

وهل ريبةٌ في أن تحِنَّ نجيبةٌ ... إلى إلفِها أو أنْ يُجيبَ نجيبُ

أُحبُّ هبوطَ الواديَين وإنَّني ... لمستهترٌ بالواديَين غريبُ

ألا لا أرَى وادي المياه يثيبُني ... ولا النَّفسَ عن وادي المياه تطيبُ

بنفسي وأهلي من إذا عرّضوا له ... ببعضِ الأذَى لم يدرِ كيف يُجيبُ

ولمَّا رأيتُ الصَّبرَ أبقَى مودَّةً ... وطارتْ بأضغانٍ إليَّ قلوبُ

صددتُ اجْتناباً لا ملالاً ولا قلًى ... أُميمةُ مهجوراً إليَّ حبيبُ

ونُبِّئتُها قالتْ ومن دون أرضِها ... تهاويلُ غبرٌ ما بهنَّ عَريبُ

عذيرَكَ مِن هذا الَّذي هو لم يعُجْ ... فيُخبرَنا عنه ونحن قريبُ

فقلتُ لها يا وَيكِ هلاَّ عذرْتِني ... لدَيها فقد حلَّتْ عليَّ ذنوبُ

وقلت لها يا أملحَ النَّاسِ راكبٌ ... به شَعَثٌ بادٍ يُرَى وشُحوبُ

جفاه الغواني منذ حينٍ وشفَّهُ ... سهومٌ لألوان الكرام سلوبُ

يَقَرُّ بعينِي أن أرَى ضوءَ كمزنةٍ ... يمانيَّةٍ أو أنْ تهبَّ جنوبُ

أما والَّذي يبلي السّرائر كلّها ... فيعلَمُ ما يبدو له ويغيبُ

لقد كنتِ ممَّا يصطَفِي النَّاسُ خُلَّةً ... لها دونَ خُلاَّن الصَّفاء نصيبُ

ولا خيرَ في الدُّنيا إذا أنتَ لمْ تزرْ ... حبيباً ولم يطربْ إليكَ حبيبُ

ألا يا أُميمَ القلبِ دام لكِ الهوَى ... أما ساعةٌ إلاَّ عليكِ رقيبُ

صغيرٌ بصيرٌ أو كبيرٌ مجرّبٌ ... بتصريف أقوال الكلام لبيبُ

أُميمَ لقد عذَّبتِني وأرَيْتِني ... بدائعَ أخلاقٍ لهنَّ ضروبُ

صدوداً وإعراضاً كأنِّيَ مُذنبٌ ... وما كانَ بي إلاَّ هواكِ ذنوبُ

وما ماءُ مُزنٍ في هضابٍ يحفُّها ... مناكبُ مِن شُمّ الذُّرَى ولُهوبُ

بأطيبَ مِن فِيها اغْتباقاً وإنَّني ... بشَيمٍ إذا أبصرتهُ لمُصيبُ

أمَّا هذا البيت الأخير فقد أكثرت الشعراء فيه وما جوَّد ابن الدُّمَيْنة أخذه ونحن نذكر أوَّل من أتى به وبعض من جوّد وأحسن في تناوله فأوَّل من أتى به النابغة في قوله:

زعمَ الهُمامُ بأنَّ فاها طيِّبٌ ... عذبٌ إذا قبَّلتَه قلتَ ازْدَدِ

زعمَ الهُمامُ ولم أذُقهُ بأنَّه ... يُشفَى ببردِ لِثاتهِ العطِشُ الصَّدِي

وأخذه المجنون فقال:

وتجلو بمسواك الأراك مُفلّجاً ... له أُشُرٌ عذبٌ متى ذاقَ ذائقُ

وما ذقتهُ إلاَّ بعينِي تفرّساً ... كما شِيمَ في أعلَى السَّحابةِ بارقُ

مثله:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015