في قوادم الجناح، لأنَّه أشدّ سواداً من الخوافي، فلذلك خصَّ القوادم بالتَّشبيه، ويجوز أن يكون إنَّما عنى أصابعها وشبهها بقادمتي الحمامة وذكر أن أطراف أصابعها مخضوبة وأنَّه نظر إليها وهي تستاك فشبه أصابعها بقوادم ريش الجناح، وهذان القولان جميعاً جائزان، وذكر الأصمعي أنَّه عنى سواد لحم الأسنان وذلك أنهم كانوا يدمون اللثة ثمَّ يذرون عليها الكحل لتسودَّ فيكون سوادها مع بياض الأسنان حسناً، وهذا أيضاً قولٌ. وقد أخذ جماعة من الشعراء هذا المعنى من النابغة، فأحدهم الأعشى في قوله:

تجلو بقادمتَي حمامة أيكة ... بَردا أُسِفَّ لِثاتُه بسوادِ

ذكر أنَّها لمياء الشفتين، والعرب إذا وصفت بياض الثغر خلطت بذلك سواد اللثة، وأول من اخترع هذا المعنى امرؤ القيس فقال:

منابتُه مثل السُّدوس ولونُهُ ... كشوك السَّيَال وهو عذبٌ يفيضُ

السُّدوس: النِيلَنج، وهو أيضاً الطيلسان الأسود، والسَّيال: نبتٌ أصوله بيض أمثال الثنايا، فأخذ هذا المعنى الأعشى فقال:

باكرتْها الأعرابُ في سِنَة النَّو ... مِ فتجرِي جلالَ شَوك السَّيالِ

وأخذه أيضاً أبو تمام فقال:

كانَ شوكَ السَّيال حُسنا فأمسَى ... وبه للعناد شوكُ القَتادِ

جوَّد أبو تمام هذا البيت والمعنى بذكره شوك السَّيال في حُسنه وشوك القتاد في صعوبته، وأخذ الأحوص معنى النابغة فقال:

تجلُو بقادمتَي قُمريَّةٍ بَرَدا ... غُرّا في مجاري ظَلْمِه أشَرَا

وقال آخر:

تُريك ثغراً عذباً مقبَّلهُ ... لا كسَسٌ عابَهُ ولا روَقُ

كأقحوان الكثيب باكرَهُ الطَّ ... لُّ فأضحَى يهتزُّ يأتَلِقُ

وقال مسلم:

إذا ما اشْتَهَيْنا الأقحوانَ تبسَّمتْ ... لنا عن ثنايا لا قصارٍ ولا ثُعْلِ

بيت مسلم هذا مثل البيتين الذين كتبناهما قبله إلاَّ أنَّه أحسن منهما لفظاً وأجود تركيباً، وقد أخذ طرفة بن العبد معنى النابغة فقال:

وتبسم عن ألْمَى كأنَّ منوِّراً ... تخلَّلَ حرَّ الرَّملِ دِعْصٌ له نَدِ

وقال أيضاً:

وإذا تضحك تُبدي حَبباً ... عن شتيتٍ كأقاحي الرَّمل حُرْ

بدَّلته الشَّمسُ من منبِته ... بَرَدا أبيضَ مصقولَ الأشُرْ

روي عن الشعبي أنَّه كان يسأل جلساءه عن معنى هذا البيت فلا يجيبون، ثمَّ فسَّره لهم فقال: كان الغلام أو الجارية من غلمان العرب، إذا سقطت سنُّه، يقف بحذاء الشَّمس فيحذفُ بها ثمَّ يقول يخاطب الشَّمس: أبدليني بها سنّاً أحسن منها، فهذا معنى قول طرفة بن العبد الَّذي ذكرنا. وقال ساعدة بن جؤيَّة في ذلك وشبَّ الثغر بالأقحوان:

ومنَصّب كالأقحوان منَطَّق ... بالظّلْم مصقول العوارض أشنب

الظلْم، مسكن اللام: الماء الَّذي يشفّ في الأسنان لمن تأمَّلها. وروى بعضهم أنَّه سأل الخليل عن الظلم وكان الخليل يأكل رمّاناً فأخذ حبَّة من حبّ الرمّان وقال للسائل: هذا الظلم، يريد الماء الَّذي يشف في حب الرمّان، ويقال للثلج أيضاً الظلم وأنشد:

أفي شنباءَ مُشربَةِ الثَّنايا ... بماء الظَّلْم طيبةِ الرضابِ

فهذا البيت شاهد في الثلج أنَّه يسمَّى الظلم، والعوارض: ما يبدو من الأسنان عند الضحك، ومنه يقال: فلانة مصقولة العوارض، والشنب: بَرد الفم ورقَّة الأسنان، وحدّ كلّ شيء غربه وهذا عندنا الصواب.

وقال آخر يُشبِّه الأسنان بالأقحوان:

ويضحك عن غرّ الثَّنايا كأنَّه ... ذرى أقحوان نبتُه لم تنتَّلِ

وقال الأعشى:

وشتيتٍ كالأقحوان جلاه الطَّ ... لُّ فيه عذوبة واتِّساقُ

وقال سعيد بن سمي:

تُجري السّواكَ على حُوٍّ مناصبُه ... كأنَّه أقحوان حين تبتسِمُ

وقال جميل:

بذي أُشُرٍ كالأقحوان يزِينه ... ندى الطَّلِّ إلاَّ أنَّه هوَ أملَحُ

وقد شُبِّه الثغر أيضاً بالدُّرّ، قال الشاعر:

تبُذ بالحسن كلَّ جارية ... كما يبُذُّ الكواكبُ القمَرُ

كأنَّ درّا نَظْماً إذا ابتسمتْ ... من ثغرها في الحديثِ ينتثرُ

ومن جيد ما وصف به الثغر قول الشاعر:

إذا ما اجْتلَى الرَّائي إليها بطرْفِه ... غروبَ ثناياها أضاءَ وأظلَما

أراد أضاء من الضوء والتألّق وأظلم من الظَّلم وهذا حسنٌ جداً. وقد شبه أيضاً الثغر بالإغريض وهو الطَّلْع ويقال البَرَد، وقال الشاعر:

ليالي تصطاد الرجال بفاحِمٍ ... وأبيض كالإغريض لم يتثلَّمِ

ويقال الإغريض أيضاً للقطر الكبار أول ما تأخذ السحابة في المطر، قال الشاعر وذكر امرأة:

فدانَت سماحاً واستهلَّت دموعُها ... كإغريض مُزنٍ حطَّمته الجنائبُ

وممَّن شبه الثغر بالبَرَد جرير بقوله:

تُجري السّواك على أغرَّ كأنَّه ... بَرَدٌ تحدَّر من متونِ غَمامِ

وقال رؤبة بن العجَّاج:

تَضحك عن أشنبَ عذبٍ مَلثَمُهْ ... يكادُ شفَّافُ الرِّياح يرأمُهْ

كالبرق يجلو بَرَداً تبسُّمُهْ

وقال آخر:

إذا ضحكت لم تَبْتَهِر وتبسَّمتْ ... عن أشنبَ لا كُسٍّ ولا متراكبِ

كنَور النقا أصبحتَه حين أظهرت ... له الشمسُ قرناً بعد نوءِ الهواضبِ

يزلّ الندى عنه ومن تحته الثرى ... بأجرعَ مَيْثٍ طيّب الرَّيقِ عازبِ

قد ذكرنا ها هنا قطعة من أشعار المتقدمين، وخلطنا بشيء يسير من أشعار المحدثين، إذ كانت أشعار المحدثين وتدقيقهم في المعاني أضعاف ما للمتقدمين؛ إلاَّ أن المتقدمين لهم الاختراع وللمحدثين الاتباع، ولو لم يكن للمحدثين في هذا المعنى غير قول أبي تمام والبحتري لكفاهم ذلك تجويداً وإصابة للمعنى وحذقاً به. قال أبو تمام في الثغر والابتسام:

وثناياك إنّها إغريضٌ ... ولآلٍ تُوام وبرقٌ وميضُ

فأتى البحتري شبيهاً به في قوله:

يضحكنَ عن بَرَد ونَور أقاح

ثمَّ زاد على هذا وعلى قول أبي تمام بقوله:

كأنّما يبسم عن لؤلؤٍ ... منظّم أو بَرَدٍ أو أقاحِ

فأتى في هذا البيت بأكثر ما وصفت به الثغور، وإنَّما أقصرنا عن أن نأتي بما نعرف للمحدثين في هذا المعنى ها هنا بحالين، إحداهما أنّه كثير متَّسع، والأخرى أنا نحتاج إلى أن نأتيَ به معنًى معنى في مواضع من الكتاب نضطر إليها.

خرج خِراشُ بن أبي خراشٍ الهذلي وعروة بن مرَّة، فأغارا على ثُمالة، فنذر بهما حيَّان من ثمالة يقال لأحدهما بنو دارم والآخر بنو هلال فأخذوهما فأمَّا بنو هلال فأخذوا عروة بن مرَّة فقتلوه، وأمَّا بنو دارم فأخذوا خراش بن أبي خراش فأرادوا قتله، فألقى رجل منهم عليه ثوباً وقال: انجُهْ، ففحص كأنَّه ظبي واتَّبعه القوم ففاتهم، وأتى أبا خراش فحدَّثه الخبر وعرفه أن بعضهم ألقى عليه ثوبه، فقال: وهل تعرفه؟ فقال: لا، فقال أبو خراش وذكر ذلك ورثى أخاه:

حمِدتُ إلهي بعد عروةَ إذ نجا ... خراش وبعضُ الشَّرِّ أهونُ من بعضِ

فوالله لا أنسَى قتيلاً رزِئتُه ... بجانب قَوسي ما مشتُ على الأرضِ

بلَى إنَّها تعفو الكلومُ وإنَّما ... نُوكَّلُ بالأدنَى واًن جلَّ ما يمضي

ولم أدرِ مَن ألقَى عليه رداءهُ ... سوى أنَّه قد سُلَّ عن ماجدٍ مَحضِ

ولم يكُ مثلوجَ الفؤادِ مُهيَّجاً ... أضاعَ الشَّبابَ في الربيلةِ والخَفضِ

ولكنَّه قد نازعتهُ مخامِصٌ ... على أنَّه ذو مِرَّةٍ صادقُ النهضِ

كأنَّهم يشَّبّثونَ بطائرٍ ... خفيف المُشاشِ عظمُهُ غير ذي نَحضِ

يُبادرُ قربَ اللَّيل فهو مُهابِذٌ ... يحثُّ الجناح بالتبسط والقبضِ

لا نعرف للعرب في معنى هذه الأبيات أجود منها، وله فيها أشياء نحن نبيّنها ونأتي بنظائرها، فمن ذلك قوله: " فوالله لا أنسى قتيلاً " البيت، وهذا من إفراط جزعه، ثمَّ تبيَّن أنَّه سيسلو فقال: " بلى إنَّها تعفو الكلوم " البيت، يقول: إنِّي وإن حلفتُ أنِّي لا أنسى هذا القتيل فإن الكلوم تبرأ فضربه مثلاً للمصائب التي تُنسى، يقول: يُنسى قديمها وتوكّلوا بحديثها وإن كان القديم جليلاً. وقوله: " نوكل بالأدنى " يقول: إنَّما نحزن على الأقرب فالأقرب، وكلّما تقادم الشيء نسيناه، ومثل هذا أو قريب منه قول الآخر:

كلَّما تبلَى وجوهٌ في الثَّرى ... فكذا يبلَى عليهنَّ الحَزَنْ

وقال أبو العباس ثعلب: قلت لأبي عبد الله محمد بن الأعرابي: هل تعرف مثل شعر أبي خراش هذا؟ وأنشدته الأبيات، فقال:

آخر ما شيء يَغُولكَ وال ... أقدم تنساهُ وإنْ هوَ جَلْ

قد نَحدثْني الحادثات فلا ... أجزع من شيء ولا أجذلْ

هذا الشعر من العروض الثانية والضرب الرابع من السريع وبيته:

النشرُ مسكٌ والوجوه دنا ... نيرُ وأطراف الأكُفِّ عَنَمْ

وأجود ممَّا اختاره ابن الأعرابي قول الأحوص:

النفسُ فاستَيقِنا ليست بمعولة ... شيئاً وإن جلَّ إلاَّ ريث تعترفُ

إنَّ القديمَ وإن جلَّت رزيَّتُه ... ينضو فيُنسَى ويبقَى الحادثُ الأَنِفُ

هذا معنى جيد مسفر وبيت أبي خراش أجود منه، وقال أبو العتاهية في هذا المعنى:

فإذا انقضى همّ امرئ فقد انْقضَى ... إن الهموم أشدّهنَّ الأحدثُ

وقد ردَّ أيضاً أبو العتاهية هذا المعنى فقال:

إنَّما أنت طول عمرك ما عُمِّ ... رتَ في السَّاعة الَّتي أنتَ فيها

وبيت أبي العتاهية هذا في نهاية الجودة وإصابة المعنى، وقد ذكرنا شيئاً من نظائر بيت أبي خراش هذا الَّذي قدمنا ذكره فيما تقدَّم من الكتاب.

وأما قوله: " ولم أدر من ألقى عليه رداءه " البيت، فهو أول من مدح من لا يعرف وذلك أن خراشاً لما غشى ألقى عليه رجلٌ ثوبه فواراه وشُغلوا بقتل عروة عنه، فنجا خراش، فقال أبوه: ولم أدرِ من فعل هذا الفعل ولكنَّ صاحب هذا الثوب قد سُلَّ عن ماجد محض، أي فعل هذا الفعل رجلٌ كريم، وإلى هذا المعنى نظر أبو نواس في قوله:

ولمْ أدرِ ما هُم غيرَ ما شهِدتْ به ... بشرقِيّ ساباطَ الرّسوم الدّوارسُ

وقول أبي خراش يصف خراشاً: " ولم يكُ مثلوج الفؤاد " البيت والَّذي بعده، يذكر أنَّه لم يكن مُنْتَفلاً مقيماً في الدعة والنعمة والأكل والشرب فيكون مهبّجاً لذلك، ولكنه قد جاذبه الجوع حتَّى خفَّ لحمه، فإذا نهض نهض بحقيقة ولم يكذب، ثمَّ وصف جودة حُضْرِه فقال: " كأنَّهم يشَّبّثون بطائر " البيتين، لا نعرف في السرعة مثل هذا لأنه شبَّهه في الخفَّة بطائر فقال: " خفيف المشاش " ليكون أسرع له، ثمَّ قال: " عظمه غير ذي نحض " أي ليس على عظمه لحم، ثمَّ ذكر أنَّه يبادر بحثّ جناحه في البسط والقبض قرب الليل، فما نحسب أحداً ذكر في الكلام المنظوم والمنثور أحداً بالسرعة ولا وصفه بذلك إلاَّ دون هذه الصفة، وكان أبو خراش أحد الفرّارين ومن يُحضر فلا يُلحق، وممَّا ذكر من شدَّة حُضره وخفَّته في فرة فرَّها من الخزاعيين، وكانوا يطلبونه بثأر، فقال:

رَفَوني وقالوا يا خويلدُ لا تُرَعْ ... فقلتُ وأنكرتُ الوجوهَ هُم هُمُ

تذكَّرتُ ما أين المفَرّ وإنَّني ... بغرْزِ الَّذي يُنجي من الموتِ مُعصِمُ

فوالله ما رَبْداءُ أو عَير عانةٍ ... أقَبُّ وما أن تَيسُ رَملٍ مُصمِّمُ

بأسرعَ منِّي إذ عرفتُ عدِيَّهم ... كأنِّي لأُولاهم من القربِ توأمُ

أوائلُ بالشَّدِّ الذليق وجُنَّتي ... لدى المتنِ مشبوحُ الذّراعين خَلجمُ

فلولا دِراكُ الشَّدِّ ظلَّت حَليلَتي ... تخيَّرُ في خطَّابها وهي أيِّمُ

فتسخَطُ أو ترضَى مكاني خليفةً ... وكانَ خراش يوم ذاكَ تيتَّمُ

وقال أيضاً في مثل هذا المعنى:

لمَّا رأيتُ بني نُفاثة أقبلُوا ... يُشلُون كلَّ مقلِّص خِنَّابِ

ونشِبتُ ريح الموت من تلقائهم ... وكرهتُ وقعَ مهنَّدٍ قِرضابِ

أقبلتُ لا يشتدُّ شدّي فادرٌ ... عِلجٌ أقَبُّ مشمّر الأقرابِ

ودفعتُ ساقاً لا أخافُ عِثارَها ... وطرَحتُ عنِّي بالعَراء ثيابي

وقد أخذ في شعره الضادي الَّذي قدمنا ذكره مصراعاً بأسره لطرفة بن العبد فقال:

حمدتُ إلهي بعد عُروةَ إذ نجا ... خراش وبعض الشرّ أهون مِن بعضِ

وقال طرفة:

أبا منذر أفنيتَ فاسْتَبق بعضَنا ... حنانَيك بعض الشرِّ أهون من بعضِ

وقد أتى بهذا المعنى غير أبي خراش فقال:

ورفَّعتَ لي ذكري وما كانَ خاملاً ... ولكنَّ بعضَ الذّكر أرفَعُ من بعضِ

هذا الكلام حذو كلام طرفة، بل هو منه، وإن كان غير المعنى الَّذي أتى به خراش وطرفة. ولأبي خراش في الفرار والعدو على الرجلَين أشياء كثيرة، قد ذكرنا بعضها وسنذكر منها شيئاً آخر، فمن ذلك قوله في فرَّة فرَّها يعتذر منها:

لحا اللهُ جَدّاً راضِعاً لو أفادني ... غداةَ التقَى الرّجلانِ في كفِّ شاهكِ

فإن تزعمي أنِّي جَبُنْتُ فإنَّني ... أفرُّ وأرمي مرَّةً كلَّ ذلكِ

أُقاتلُ حتَّى لا أرَى لي مقاتلاً ... وأنجُو إذا ما خفتُ بعض المهالكِ

ومن ههنا أخذ الآخر قوله:

أُقاتل حتَّى لا أرَى لي مقاتلاً ... وأنجُو إذا غمَّ الجبانُ من الكربِ

وقال تأبَّط شرّاً وذكر شدة حُضْره من أعدائه:

إنِّي إذا خُلَّةٌ ضنَّتْ بنائلها ... وأمسكتْ بضعيفِ الحبلِ أحذَاقِ

نجوتُ منها نجائي من بَجيلَةَ إذ ... ألقيتُ ليلة خَبْتِ الرَّمل أرواقِي

ليلةَ صاحوا وأغرَوا بي سِراعَهم ... بالعَيكتَينِ لدى مَعْدَى بنِ بَراقِ

كأنَّما حثحَثُوا حُصّاً قوادِمُه ... وأُمَّ خِشفٍ بذي شتٍّ وطُبَّاقِ

حتَّى نجوتُ ولمَّا يَنزِعوا سَلَبي ... بوالهٍ من قنيص الشَّدِّ غَيداقِ

وقال آخر:

فِدًى لكما رِجليَّ أمّي وخالَتي ... غداةَ الكلاَبِ إذ تُجنُّ الدوائرُ

وأشعارهم في هذا المعنى كثيرة. وفي الاعتذار من الفرار في حال وتحسينه في حال وتقبيحه في أُخرى أكثر من أن تحصى، وقد ذكرنا من ذلك شيئاً في هذا الموضع وفي غيره من كتابنا ونذكر فيما يستأنف بمشيئة الله وعونه.

وقال أبو خراش:

وإنِّي لأُثوِي الجوعَ حتَّى يَمَلني ... فيذهب لم تَدْنَس ثيابي ولا جِرْمي

أردُّ شجاعَ الجُوعِ قَد تعلمينه ... وأُوثِرُ عبدي من عيالِكِ بالطّعمِ

مخافةَ أن أحْيَا برغمٍ وذلَّةٍ ... ولَلْموتُ خيرٌ من حياةٍ على رغمِ

الحجَّاج بن عثمان التجيبيّ من قبيلة تجيب:

ولي صاحبٌ ما خانَني مذ حملتُه ... ولا كانَ إلاَّ مُسعداً لي على الدَّهرِ

شبيهيَ إرهافاً وإن كنتُ فوقه ... بياناً إذا ما قوبلَ الأمرُ بالأمرِ

أنستُ به من دون أهلي ولو غدا ... ضجيعيَ في قبري لما هالني قَبْري

وما خفتُ مذ يوم ارتدَيتُ نِجادَهُ ... ظلامة والٍ أو مبادهةَ الفقرِ

أخذه عبيد الله بن طاهر فقال:

وما أخذتْ كفِّي بقائك نَصلهِ ... فحدَّثتُ نفسي بانهزامٍ ولا فرِّ

هذا معنى جيد قد تشارك فيه جماعة الشعراء، فمن أحسنهم قولاً مسلم بن الوليد في قوله:

أتَتْك المطايا تهتدي بمطيَّة ... عليها فتًى كالنّصل يؤنِسه النصلُ

فلمَّا انبعثنَ النُّورَ خَوَّينَ تَحته ... على أملٍ يشجَى به اليأسُ والمَطْلُ

هذان البيتان من أحسن وصف، والبيت الأول منهما مليح التشبيه طريف المعنى في قوله: " يؤنسه النصلُ " وأتى بهذا المعنى آخر فجوَّد بقوله:

رُبَّ ليلٍ جعلتُهُ طيلساني ... مؤنسي صارمي وقلب مجنِّي

ظَرُف في قوله: " قلبي مجنّي " ولا نعلم أنَّ أحداً أتى بهذا قبله وجعل ترسه قلبه، وقد أخذه بعض العلويين فقال:

قومي إذا حضرُوا الوغَى ... جَعَلوا الصُّدور لها مسالِكْ

الَّلابسينَ قُلوبَهم ... فوقَ الدُّروعِ لدفعِ ذلكْ

وإليه نظر بعضهم فقال:

يلقى السُّيوف بنحره وبصدره ... ويقيم هامتَه مقام المِغْفَرِ

وأتى به طاهر بن الحسين فقال:

سيفي رفيقي ومُسعدي فرسي ... والكأس خدني وقينتِي أنَسِي

أربعة لا أُريد خامسةً ... سوى نديم عارٍ من الدنَسِ

ومثله لآخر:

مهري جواد وسيفي صارم ذكر ... والزّقُّ خلفي ورزق الله قدَّامِي

إنَّما أردنا من هذين البيتين أنَّه جعل سيفه رفيقه، وقال الحمدوني في هذا المعنى فجوَّد:

تستأنس الظَّلماء منه بمخذم ... مستأنسٍ بالمشرفيِّ المِخْذَمِ

أخذه أبو تمام فقال:

مستأنسِين إلى الحتوف كأنَّها ... بين الحتوف وبينهم أرحامُ

وللبحتري مثله:

وما صاحبِي إلاَّ الحُسام وبزّه ... وإلاَّ العلنداة الأمون وكورها

ولقد جوَّد ابن أبي زرعة الدمشقيّ في هذا المعنى بقوله:

ليس لي صاحبٌ على الهول إلاَّ ... صاحبٌ ما يزالُ من عن يَساري

فإذا ما نسبته فيمانٍ ... وهو في خندف قديمُ الجوارِ

أرتَضيه للحادثات فيرضا ... ني لإيرادِه وللإصْدارِ

وذكره آخر فقال:

لي صاحبٌ لا أمَلُّ صحبتَهُ ... لا يمَلُّ الرواء من قِبَلِي

كم من ظلام جعلتُهُ قَبَسي ... فيه وخطب أزاحَهُ جَلَلِ

وقال أبو زُبيد الطائي:

سأقطعُ ما بيني وبينَ ابن عامرٍ ... قطيعةَ وصل لست أقطعُ جافيا

فتى يُتبع النُّعمى بنُعمَى تربها ... ولا يتبع الإخوان بالذّمِّ زاريا

إذا كانَ شكري دون فيض بنانه ... وطاولَني جوداً فكيف اختياليا

هذا معنى حسن وقد تجاذبه جماعة من الشعراء وولدوا فيه أشياء بقرائحهم نحن نذكر بعضها إلاَّ أنَّ الأصل فيه المخترع له أبو زُبيد في الأبيات الَّتي قدَّمناها، وممَّن جوَّد فيه أبو نواس بقوله:

قد قلتُ للعبَّاس مُعتذِراً ... من حمل شكريه ومُعترفا

أنتَ امرؤٌ جلَّلْتَني نِعَماً ... أوهَتْ قُوَى شكري فقد ضَعفا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015