وهذا مثل قول الآخر:
وما كنتُ إلاَّ مثل قاطع كفّهِ ... بكفٍّ له أخرى فأصبحَ أجْذَما
يَداه أصابت هذه حتفَ هذه ... فلم تجدِ الأخرى عليه مقدَّما
فلمّا استقادَ الكفُّ بالكفِّ لم يجدْ ... له دَرَكاً في أن تَبينا فأحْجما
ولبعض المحدثين في مثل هذا:
لم أجْنِ ذنباً ولم أُرِدهُ فإن ... قارفتُ ذنباً فغيرَ مُعتمدِ
قد تطرِف الكفُّ عينَ صاحبها ... فلا يَرى قطعها من الرَّشَدِ
وإلى هذا نظر البحتري في قوله يخاطب قوماً من طيئ:
إنْ أرمِكم يكُ من بعضي لكم شُعَل ... تَهوي إليكم ومن بعضي لكم جُنَنُ
رَددْتُ نفسي على نفسي فقلت لها ... بنو أبيك فما الأحقادُ والإحَنُ
وقد ردّ هذا المعنى في موضع آخر فقال:
لآل حميد مذهب فيّ لم أكُن ... لأذهبَهُ فيهم وإنْ جَدَعوا أنْفي
ولم أرمِ إلاَّ كان عِرْض عدوِّهم ... من النَّاس قدّامي وأعراضم خَلْفي
وقال لي الأعداء ما أنت صانع ... وليس يراني الله أنحتُ من حَرْفي
وإنّي لئيم إنْ تركت لأسرتي ... أوابدَ تبقى في القراطيس والصحْفِ
وهذا المعنى كثير في المحدث والمتقدّم، ولو أتينا به لكان كتاباً مفرداً، ولا بدّ أن نذكر فيه أشياء في مواضع من هذا الكتاب.
قال عمير بن الأهتم العبديّ:
إذ دنَونا ودنَوا حتَّى إذا ... أمكنَ الطعنُ ومن شاء ضَربْ
ركدتْ فينا وفيهم ساعة ... سمهريّاتٌ وبيضٌ كالشُهُبْ
أعرابيّ:
أأمام إنّا ما تزال جيادنا ... رُجُعاً بهنّ من الجراح ندوبُ
يحملن كلَّ مجرّبٍ يوم الوغى ... شاكي السلاح يُحبُّه المكروبُ
ذكرت الرواة أنة مُنْصفات أشعار العرب ثلاثة أشعار، فأولها قصيدة عامر بن معشر بن أسحم بن عديّ بن شيبان بن سود ابن عُذرة بن منبّه ابن لُكيز بن أفصى بن عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار:
ألم ترَ أنّ جيرتنا اسْتقَلُّوا ... فنِيَّتُنا ونيّتهُم فَريقُ
فِداءٌ خالتي لبني لُكيز ... خصوصاً يومَ كُسُّ القوم روقُ
تلاقينا بسبسبِ ذي طُرَيْفٍ ... وبعضُهم على بعضٍ حنيقُ
فجاءوا عارِضاً بَرِداً وجئنا ... كمثل السيل غصَّ به الطَّريقُ
كأنَّ النَّبْلَ بينهم جَرادٌ ... تُصفّقه يمانيةٌ خَريقُ
قليلٌ ما ترى فيهم كميّاً ... كبا لديه إلاَّ فيهِ فوقُ
كأنّ هريرَنا لمّا التقينا ... هريرُ أباءةٍ فيها حريقُ
بكلّ قرارةٍ منّا ومنهم ... بنانُ فتًى وجُمجُمة فليقُ
فكم من سيِّدٍ منّا ومنهم ... بذي الطّرفاء منطِقهُ شهيقُ
فأشْبعنا السِباعَ وأشبعوها ... فراحت كلُّها تيقٌ تفوقُ
وأبْكينا نساءهُم وأبْكَوا ... نساءً ما يجفُّ لهنَّ موقُ
يُجاوبنَ النياحَ بكلّ فجرٍ ... فقد صَحِلتْ من النَّوح الحُلوقُ
تركنا الأبيض الوضّاحَ منهم ... كأنَّ سوادَ قُلَّته العُذوقُ
تُعاوره رماحُ بني لُكيز ... فخرَّ كأنّهُ سيفٌ دَلوقُ
وقد قتلوا به منّا غلاماً ... كريماً لم تأشّبهُ العروقُ
وأُفْلَتنا ابنُ قرانٍ جَريضاً ... يمرُّ به مُساعفةَ مروقُ
فلمّا اسْتيقنوا بالصبرْ منّا ... تذكّرت الأواصرُ والحقوقُ
فأبقينا ولو شئنا تركنا ... لُجَيْماً لا يقودُ ولا يسوقُ
أما قوله " فداء خالتي لبني لكيز " البيت، فقد قدّمنا شيئاً من نظائره وممّا لم يذكر قول الأعشى البكري:
وإذا ما الأكَسُّ شُبّه بالأر ... وق عند الهيجا وقلَّ البصاقُ
وقول عنترة:
ولقد حفظتُ وصاة عمّي بالضُّحى ... إذ تقلصُ الشَفتانِ عن وضَح الفَمِ
وقال آخر:
وتقلّصت شفتاه عند نزالهم ... فكأنّه يوم الوغى متبسِّمُ
وأخذه آخر فقال:
حين توخَّيتُه بذي شطب ... أبيض كالصُّبح كشَّفَ الحَنكا
قابلَني مبدِياً نواجِذه ... كأنه ضاحكٌ وما ضَحِكا
ولمقّاس العائذيّ في هذا المعنى:
لمّا رآني في مجال ضَنْكِ ... والحيلُ تردى بالأسود المعكِ
أبدى الثنايا آئِساً من تركي ... كأنَّه يضحكُ وهوَ يبْكي
وللرّبيع بن زياد العبسيّ:
عطَفنا وراءك أفراسَنا ... وقد أسْلَم الشَفتان الفَما
ومثله للعجاج:
ونحن أهل البأس والتقدُّمِ ... إذا السيوف أخرجَتْ أقصى الفمِ
ونحن بمشيئة الله وعونه نذكر ما بقي من نظائر هذا المعنى في مواضع نستأنفها من هذا الكتاب.
المنصفة الثانية لعبد الشارِق بن عبد العزيز الجُهَنيّ:
ألا حُيِّيتِ عنا يا رُدَينا ... نُحيِّيها وإن بخلتْ علينا
رُدينةُ لو رأيتِ غداةَ جِئنا ... على أضْماننا وقد احْتوَينا
وأرسَلْنا أبا عمرو رسولاً ... فقال ألا انعَموا بالقوم عينا
ودَسُّوا فارساً منهم عِشاءً ... فلمْ نَغْدر بفارسهم لدَيْنا
فجاءوا عارضاً بَرِداً وجئنا ... كمثل السَّيل نركَبُ وازِعَيْنا
تنادَوا يالَ بُهثةَ إذ لقونا ... فقلنا أحسِنوا قولاً جُهَينا
سمعنا نَبأة عن ظهر غيبً ... فجُلنا جولةً ثمَّ ارْعَوينا
فلمَّا أنْ تواقَفْنا قليلاً ... أنَخْنا للكلاكلِ فارْتمينا
ولمَّا لم ندَعْ سهماً ورُمحاً ... مشينا نحوهم ومشَوا إلينا
تلألُؤَ مُزنةٍ بَرقَتْ لأخرى ... إذا حجَلوا بأسيافٍ رَدَيْنا
فمن يرَنا يقُلْ سيل أتِيٌّ ... نكرُ عليهم وهم علينا
شدَدنا شدَّة فقتلتُ منهم ... ثلاثةَ فِتيةٍ وأسرتُ قَيْنا
وشدّوا شدَّة أخرى فجرُّوا ... بأرجُلٍ مثلهم ورَموا جُوَينا
وكان أخي جُوَينٌ ذا حفاظ ... وكان القتلُ للفتيان زَيْنا
فآبوا بالرِّماح مكسَّرات ... وأُبْنا بالسيوف قدِ انْحنَينا
وباتوا بالصَّعيد لهم أُحاحٌ ... ولو خفَّتْ لنا الكَلْمى سَرَينا
للنصفة الثالثة للعبّاس بن مرداس السُّلَميّ وأولها:
لأسماءَ رَبع أصبح اليوم دارساً ... وأقْفَرَ منها رَحْرحان فراكِسا
يقول فيها:
فدَعْها ولكن هل أتاها مُقادُنا ... لأعدائنا نُزجي الظِّباءَ الكوانسا
يقول: نسوق بين أيدينا الظباء والعرب تتشاءم بها.
نشدّ بتعطاف الملاء رؤوسَنا ... على قلص نعلو بهنّ الأمالسا
سَمونا لهم سبعاً وعشرين ليلةً ... نجوبُ من الأعراض قفراً بَسابِسا
فبِتنا قُعوداً في الحديد وأصبحوا ... على الرُكبات يتَّقون الدُّنافِسا
فلم أر مثلَ الحيّ حيّاً مُصبَّحاً ... ولا مثلنا يوم التقينا فوارِسا
أكَرَّ وأحمى للحقيقة منهمُ ... وأضربَ منّا بالسيوف القَوانسا
إذا ما شدَدْنا شدّة نَصبوا لنا ... صدورَ المَذاكي والرّماحَ المَداعسا
إذا الخيل أجْلَتْ عن قتيل نكرُها ... عليهم فما يرجعْنَ إلاَّ عوابِسا
وكنتُ أمامَ القوم أولَ ضاربٍ ... وطاعنتُ إذ كان الطّعان تخالُسا
وكان شُهودي مَعْبدٌ ومخارِقٌ ... وبِشرٌ وما اسْتَشهدتُ إلاَّ الأكالِسا
ومارسَ زيدٌ ثمَّ أُقصِدَ مُهرهُ ... وحُقَّ له في مثلها أنْ يُمارِسا
وقُرَّةُ يحميهم إذا ما تبدَّدوا ... ويطعنُنا شزراً فأبْرحت فارِسا
ولو مات منهم من جَرَحنا لأصبحتْ ... ضِباعٌ بأكناف الأراكِ عرائسا
ولكنَّهم في الفارسيّ فلا ترَى ... من القومِ إلاَّ في المُضاعِفِ لابِسا
فإنْ يقتلُوا منَّا كريماً فإنَّنا ... أبَأنا به قتلَى تذلّ المعَاطِسا
قتَلْنا به في مُلتقَى القوم خمسةً ... وقاتلَهُ زِدنا مع اللَّيل سادِسا
وكنَّا إذا ما الحربُ شُبَّتْ نشُبُّها ... ونضربُ فيها الأبلَجَ المتقاعِسا
وتجاهلَ في أبيات فيها لم نذكرها.
وقال سعد بن مالك بن ضُبيعة:
يا بُؤسَ للحرب الَّتي ... وضعتْ أراهطَ فاسْتَراحوا
والحربُ لا يبقَى لجا ... حِمِها التَّخيُّلُ والمِراحُ
إلاَّ الفتَى الصبَّارُ في النَّ ... جداتِ والفرسِ الوَقاحِ
والنَثرةُ الحصداء وال ... بيضُ المُكلّلُ والرِّماحُ
كشفتْ لهم عن ساقِها ... وبدا من الشّرِّ الصُّراحُ
فالهمُّ بَيضاتُ الخدو ... رِ هناك لا النَّعَم المُراحُ
مَن صدَّ عن نيرانِها ... فأنا ابنُ قَيس لا بَراحُ
أما قوله: " النَّعَم المراحُ " فهو الأصل لكل من تبعه، ومنه أخذ أبو تمام قوله:
إنَّ الأسود أُسود الغِيل همَّتُها ... يومَ الكريهةِ في المسلوبِ لا السَّلبِ
وأوَّل من نطق بهذا المعنى عنترة في قوله:
أغشَى الوغَى وأعفُّ عند المغنمِ
وقال المنخّل اليشكري:
إنْ كنتِ عاذلتِي فسيري ... نحوَ العراقِ ولا تَحُوري
لا تسْأَلي عن جُلّ ما ... لي واسْألي كرَمي وخيرِي
وإذا الرِّياحُ تناوحَتْ ... بجوانبِ البيتِ الكبيرِ
ألفَيتنِي هَشَّ اليدَيْ ... نِ بمَرْيِ قِدْحي في الجزورِ
وفوارسٍ كأُوار حرِّ ... النَّارِ أحلاس الذكور
شدوا دوابر بيضهم ... في كلِّ محكمةِ القتيرِ
واسْتَلئَمُوا وتلبَّبوا ... إنَّ التلبُّبَ للمُغيرِ
وعلى الجياد المضمرَا ... تِ فوارسٌ مثلُ الصُّقورِ
أقْرَرتُ عيني من أُولَ ... ئكَ والكواعبِ كالبُدورِ
يرفلنَ في المسكِ الذَّكيِّ ... وَصائكٍ كدم النَّحيرِ
ولقدْ دخلتُ على الفتا ... ةِ الخِدرَ في اليومِ المطيرِ
الكاعبِ الحسناء ترْ ... فُلُ في الدِّمقْسِ وفي الحريرِ
فدفعتُها فتدافعَتْ ... مشي القطاةِ إلى الغَديرِ
وعطَفْتها فتعطَّفتْ ... كتعطُّفِ الغصنِ النَّضيرِ
يا رُبَّ يومٍ للمنَخّ ... ل قد لَها فيه قَصيرِ
فإذا انْتَشيتُ فإنَّني ... ربُّ الخَورْنَق والسَّديرِ
وإذا صحوتُ فإنَّني ... ربُّ الشُوَيهةِ والبعيرِ
ولقدْ شربتُ من المُدا ... مةِ بالصغيرِ وبالكبيرِ
أبو ثمامة العبديّ:
أقولُ لمحرزٍ لمَّا التقَينا ... تنكَّبْ لا يقطِّرك الزّحامُ
فجارُك عند بيتك لحم ظبي ... وجاري عند بَيتي لا يُرامُ
يقول: إنَّ جارك مثل لحم الصيد وأنت لا تدفع عنه ولا تمنع منه، وجاري لا يرومه أحد لعزَّتي وامتناع جانبي.
أبو الطَّمَحَان القينيّ:
وإنِّي من القومِ الذين عرفتَهم ... إذا فاتَ منهم سيّدٌ قام صاحبُهْ
نجومُ سماء كلَّما غابَ كوكبٌ ... بدَا كوكب تأوِي إليه كواكبُهْ
أضاءتْ لهم أحسابُهم ووجوهُهم ... دُجَى اللَّيل حتَّى نظَّمَ الجزعَ ثاقبُهْ
معنى هذه الأبيات كثير ونظائره متسعة ونحن نذكر منها ههنا شيئاً وندع أشياء لمواضع أخر، فمن ذلك قول طفيل الغنويّ:
وكانَ هُرَيمٌ من سنانٍ خليفةً ... وعمرٍو ومن أسماءَ لمَّا تغيَّبوا
نجومُ سماءٍ كلَّما غارَ كوكبٌ ... بدا وانجلتْ عنه الدُّجُنَّةُ كوكبُ
وأخذه الآخر فقال:
ألستَ ابن قعقاع تكلّله نُحْلُ ... وعمّك إنْ عدّ العمومة صاحبُ
ومثله قول الخريميّ:
بقيَّة أقمار من العزِّ لو خبَتْ ... لظلَّتْ معدّ في الدُّجى تتكسَّعُ
إذا قمر منها تغوَّرَ أو خبَا ... بدا قمرٌ في جانبِ الأُفقِ يلمعُ
زياد الأعجم:
إذا مات منهم سيّد ودعامة ... بدا في ركاب المجد آخر صالحُ
السَّموأل بن عاديا:
إذا مات منهم سيّد قام سيّدٌ ... قؤولٌ بأقوال الكرام فَعولُ
عبد الصمد بن المعذّل:
بنو قُتيبة نورُ الأرض نورُهم ... إذا خبا قمرٌ منهم بدا قمرُ
ابن أبي حفصة:
وأبناء عباس نجوم مضيئةٌ ... إذا غابَ نجمٌ لاح آخر زاهرُ
وأما قوله: " أضاءت لهم أحسابهم " البيت، فكثير أيضاً، فمنه قوله:
وجوهٌ لو أنَّ المدلجين اعْتشَوا بها ... صدعنَ الدُّجى حتَّى ترَى اللَّيلَ ينجلِي
والأصل في هذا المعنى قول امرئ القيس:
يُضيء الفراشَ وجهُها لضجيعِها ... كمِصباح زيتٍ في قناديلِ ذُبَّالِ
ومثله للنابغة الذبياني:
وتخالُها في البيتِ إن فاجأتَها ... قد كانَ مَحجوباً سراجُ الموقدِ
وأخذه قيس بن الخطيم فقال:
قضَى لها الله حينَ صوَّرها ... بأنَّها لا يُكنُّها سدَفُ
من ههنا أخذ أبو نواس قوله في صفة الخمر:
لا ينزلُ اللَّيلُ حيث حلَّتْ ... فدهرُ شُرَّابها نهارُ
ومن المعنى الَّذي قدَّمنا ذكره:
من البِيضِ الوجوهِ بني سنانٍ ... لو أنَّك تستضِيء بهم أضاءُوا
ومثله للعباس بن الأحنف:
ومحجوبَة بالسّتر عن كلِّ ناظرٍ ... ولو برزتْ باللَّيلِ ما ضلَّ من يسرِي
أقول لها والعِيسُ تُحدَجُ للنَّوى ... أعدِّي لفقدي ما استطعتِ من الصَّبرِ
أليسَ من الخسرانِ أنَّ لياليا ... تمرُّ بلا نَفع وتُحسبُ من عمري
وقال آخر:
نمشي على ضوءِ أحساب أضَأنَ لنا ... كما أضاءتْ نجومُ اللَّيل للسَّارِي
قد ذكرنا في هذا الموضع من نظائر هذا المعنى ما فيه مقنع إلى أن يأتي ما نحتاج أن نذكر منها شيئاً آخر إن شاء الله، وإلى هذا نظر البحتري في قوله:
مَدَّ ليلاً على الكُماة فما ... يمشون فيه إلاَّ بضوء السُّيوفِ
وقال حاتم بن عبد الله الطَّائي:
أماوِيَّ إنْ يُصبحْ صداي بقفرةٍ ... من الأرضِ لا ماءٌ ولا خمرُ
ترى أنَّ ما أبقيتُ لم أكُ ربَّه ... وأنَّ يدِي ممَّا بخِلتُ به صِفرُ
ومثله للنمر بن تولب:
أعاذلَ أن يُصبح صداي بقفرةٍ ... تنكَّبَ عنها صاحبِي وقريبِي
ترى أنَّ ما أبقيتُ لم أكُ ربَّهُ ... وإنَّ الَّذي أمضيتُ كانَ نَصيبي
أعرابي:
هلاليَّة أو من نمير بن عامرٍ ... بذي السّرح من وادِي المياهِ خيامُها
إذا ابتسمتْ في البيتِ والبيتُ مظلم ... أضاءَ دُجَى اللَّيل البهيم ابتسامُها
تكشُّفَ برقٍ من حَبِيّ تلألأتْ ... به سمحة الإيماض غرّ غمامُها
قد أكثر الشعراء قديماً ومحدثاً في ذكر الابتسام وتشبيهه بالبرق، وأسهبوا أيضاً في صفات الثغور وتشبيهها بالأقحوان والإغريض والبرد واللؤلؤ وغير ذلك، ونحن نذكر هنا من ذلك طرفاً وفي غير هذا الموضع أشياء بمشيئة الله وعونه، فمن أحسن ما قيل في الابتسام وأجوده وأملحه قول الشاعر:
أحاذِرُ في الظّلماء أن تستشِفَّني ... عيون الغيارى في وميضِ المضاحكِ
هذا البيت أجود ما قيل في هذا المعنى، وما نعرف مثله حسن كلام وجودة معنى وإحكام بناء. ومن ذلك قول مسلم:
تبسَّمنَ فاستضحكن طامسةَ الدُّجَى ... عن الأُفقِ والظّلماء أوجهُها طُحْلُ
مثله أيضاً لحاتم:
يضيء بها البيت الظَّليلُ خَصاصُهُ ... إذا هي ليلاً حاولتْ أنْ تبسَّما
ومثله:
كأنَّ ابتسامَ البرق بيني وبينَها ... إذا لاحَ من بعضِ الحديثِ ابتسامُها
وهذان البيتان، وإن كانا للمتقدمين، فما يقصر بيت مسلم عنهما، بل هو أجود لولا استكراه في لفظه، وأما البيت الثاني الَّذي قدَّمناه فما لمسلم ولا لغير مسلم ممَّن أتينا بشعره أو نأتي، مثله، ولآخر في هذا المعنى:
يستَبرق الأُفُق الغربيُّ ما ابتسمتْ ... برقَ السُّيوف سِوَى أغمادِها القُضُبِ
ومثله لجميل:
وتبسم عن لمع البروق منصَّبٍ ... أغرّ الذّرَى يُزجي صَبيراً منضَّدا
كشمس تجلَّتْ عن فُروج غَمامةٍ ... وقد وافقتْ طَلْقاً من النَّجم أسعدا
وللبحتري:
فيرجع اللَّيل مبيضّاً إذا ضحكتْ ... عن أبيضٍ خَصِرِ السمطَين وضَّاحِ
ومثله لذي الرمَّة:
إذا ما التقَين من ثلاثٍ وأربعٍ ... تبسَّمنَ إيماضَ الغَمامِ المُكلَّلِ
وقال آخر:
إذا ما ابتسَمن حسبت البروقَ ... بدتْ لك في اللَّيلة المُظلِمَهْ
قد ذكرنا ههنا طرفاً ممَّا ذكر به الابتسام، ونحن نأتي بما بقي في مواضع أخر من كتابنا هذا.
فأمَّا ذكر الثغور فإنَّ الشعراء قد أكثرت في وصفها، ونحن نذكر هنا شيئاً من ذلك، قال الشاعر:
ومجدولة جدلَ العنان خريدة ... لها شَعَرٌ جَعد وجسم منعَّمُ
وثغرٌ نقيّ اللَّون عذبٌ مذاقه ... تُضيء له الظَّلماءُ حين تبسَّمُ
قال آخر:
وشفَّ عنها خمارُ القزّ عن بَرَد ... كالبرقِ لا كَسَسٌ فيه ولا ثَعَلُ
كأنَّه أقحوانٌ بات يضرِبهُ ... ليلٌ من الدجن سقاطُ النَّدَى خضلُ
قد شاب هذان الشاعران شعرَهما في صفات الثغور بذكر الابتسام