وله أيضاً:
إنِّي لأغلاهُمُ باللَّحمِ قد علموا ... نِيّاً وأرخَصُهم لحماً إذا نَضِجا
لا تجعلنّي كأقوامٍ علمتهم ... لم يظلموا لبَّةً يوماً ولا ودَجَا
ولا أُري صاحبي هجرانَ زوجته ... ولا أُحدِّثُها السوآتِ إن خرجَا
أُديمُ ودِّي لمن دامتْ مودِّتهُ ... وأمزُج الودّ أحياناً لمن مزجَا
يا رُبَّ أمرَين قد فرَّقتُ بينهما ... من بعد ما اشتبها في الصَّدر واعْتلَجا
وأقطعُ الخرقَ بالخَرقاءِ لاهيَة ... إذا الكواكبُ كانت للدُّجى سُرُجا
قوله: " إنِّي لأغلاهم باللحم " البيت، معنى مليح دقيق، وهو أنَّه لا يُطمع في إبله ولا غنمه لعزَّته، فإذا ذبح وطبخ أرخَص، أي أطعم الضيوفَ وغيرهم. ومثل هذا قول شبيب بن البرصاء:
وإنِّي لأُغلي اللَّحم نِيّاً وأنَّني ... لممَّن يُهينُ اللَّحم وهْوَ نَضيجُ
والمعنى يحتمل وجهاً آخر، وهو أن أُغلي اللحم عند الشراء، فإذا طبخته أرخصته واخترتُ هذا المعنى من قول أبي نواس:
أُغالي بها حتَّى إذا ما ملكتُها ... أَهنتُ لإكرامِ الخليل مَصونَها
ومثله أيضاً:
إنَّ بَذْلي لها لبذلُ جواد ... واقتنائي لها اقتناءُ شحيحِ
وقريب من هذا المعنى قول الآخر:
يا عين جودي بدمعٍ لا نفاد له ... وابْكي فتى الجود والهَيجاء مسروقا
مَن لا يخامره جبن ولا بخلٍ ... ولا يَبيت لدَيه اللَّحمُ موشوقا
هذا ذكر أنَّ هذا الرَّجُل لا يقدَّد اللَّحم، فيدخره، بل يطبخه طريّاً ويُطعمه للأضياف وغيرهم.
وقوله: " لا تجعلنِّي كأقوام علمتهم " البيت، أراد أنهم لم يذبحوا ناقة وهم ظالمون لها، إذا نُحرت الناقة وهي غير عليلة فهي مظلومة، وكذلك السِّقاء إذا أُخذ زُبده قبل أن يستحكم فهو مظلوم، وكذلك كلّ شيء فعلوه قبل استحكامه فهو عندهم مظلوم، قال الشاعر يهجو رجلاً:
لا يظلِم الوَطْبَ لابن العمِّ يَصبَحُه ... ويظلم العمّ وابن العمّ والخالاَ
وله أيضاً:
فما زال لي مثل الغزال وسابحٌ ... وخطَّارة غبّ السرى من عياليا
أُقاسمهُمُ للمالِ في القُلّ والغنى ... ويدفع عنهنَّ السِّنين احْتِياليا
فهذا لأيَّام الطِّراد وهذه ... للهوَى وهذي يُسِّرتْ لارتحاليا
وإنِّي لأسْتَحيي أخي أن أرَى له ... عليَّ من الحقِّ الَّذي لا يرى لِيَا
قوله: " فهذا لأيَّام الطِّراد " البيت، حسن التقسيم محكم الصنعة. ذكر أن فرسه لأيام الحرب، وجاريته لأيام السلم، وناقته لرَحله. وهذا شبيه بقول رجل سافر عن امرأته، فاشترى جارية وفرساً، وأقام بالبلد الَّذي سافر إليه، فكتبت إليه امرأته تستبطِئُه، فكتب إليها:
أَلا أَقْرِها منِّي السَّلام وقل لها ... غنِيتُ وأغْنَتْني الجُمانةُ والوردُ
شديد مناطِ المنكبَين إذا جرى ... وبَيضاء مِبْهاجٌ يُزيِّنها العِقدُ
فهذا لأَيَّام الطِّراد وهذه ... لحاجة نفسي حين ينصرف الجندُ
هذا يقرب من شعر مسكين الَّذي قدَّمنا ذكره إلاَّ أنَّه أجود من هذا، لأنَّ مسكيناً ذكر ثلاثة أشياء في بيت واحد، وهذا ذكر شيئين في ثلاثة أبيات فبينهما تفاوت بعيد.
وأما قوله: " وإنِّي لأسْتَحيي أخي " البيت، فهو من أمثال العرب الجياد. وقد روي هذا البيت لجرير. ويروى أيضاً لعبد الله بن معاوية ابن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام. وضدّ هذا المعنى قولهم: إذا عزّ أخوك فهُن. وحكى بعضهم أنَّه قرأ على باب النوبهار ببلخ، مكتوب: يقول بعض الحكماء: إذا عزّ أخوك فهُنْ، وتحته مكتوب: كذب العديم لا الحكيم، إذا عزّ أخوك فأَهِنه. ومثل هذا قول ابن المعتز:
ولا إذا عزّ أَخ أَذِلُّ
ومثل الأول قول عبد الصمد بن المعذّل:
إذا عزّ يوماً أخو ... ك في بعض أمر فهُنْ
وقال أيضاً:
وإنِّي لا أحِلُّ ببطن واد ... ولا آوي إلى البيت الصغيرِ
وإنِّي لا أُخاوِصُ عينَ ناري ... ولا أدعو رُعاتي بالصَّفيرِ
قوله: " لا أحلُّ ببطن واد " يقول: بيتي على اليفاع وفيه ينزل الكرماء لإيقاد النيران في الليل من أجل الضيوف؛ وإنَّما ينزل بالأودية البخلاء لتخفَى نيرانهم عن طرّاق الليل.
قوله: " ولا آوي إلى البيت الصغيرِ " يريد أنَّ بيتي في الفخر بيت كبير واسع. ومثله قول النابغة: " يا دار مَيَّةَ بالعلياء "، يقول: إنَّ بيتها في الفخر بيت عالٍ، هذا الَّذي ذُكر من تفسير بيت النابغة لم يقبله أحدٌ من أهل العلم. والَّذي ذكره الأصمعيّ وغيره في تفسيره أنَّه جعله بالعلياء ليكون بمنجاة من السَّيل. وكيف يريد بيت الفخر وهو يقول: " أقوتْ وطالَ عليها سالفُ الأبدِ ".
قوله: " وإنِّي لا أُخاوِصُ عينَ ناري " يريد إنِّي لا أجعلُ ناري صغيرة مثل العين الخوصاء وهي الصغيرة، من ذلك قولهم عن ابن عباس أنَّه قال: ما رأيتُ معاوية يخوِّص عينَه في وجه أحد ويقول له: هات يا أخ، إلاَّ رحمةً عِلماً من معاوية أنَّه قد انتهز فرصةً.
وقال الرَّبيع بن أبي الحُقَيق اليهودي:
أبلغ أبا ثابتٍ عنِّي مغلغَلَةً ... والجهلُ شرّ قعودٍ كانَ مرتحلا
أنا ابنُ عمّك إن نابتْك نائبةٌ ... ولستُ منك إذا ما كعبُك اعْتدَلا
وقال أيضاً:
لسنا إذا جارتْ دواعي الهوَى ... نحكمُ حكمَ الجائرِ المائلِ
واصْطَرَعَ القومُ بألبابِهم ... وأَنصتَ السَّامعُ للقائلِ
لا نجعلُ الباطلَ حقّاً ولا ... نَلِط دون الحقِّ بالباطلِ
وقال أيضاً:
إذا ماتَ منَّا سيِّدٌ قام بعده ... له خلَفٌ بادي السِّيادةِ بارعُ
من أبنائنا والغصن ينضُر فرعُهُ ... على أصله والعِرق للمرءِ نازعُ
وإنَّا لتغشانا الجدوبُ فما نُرَى ... تُقَرِّبُنا للمُدنياتِ المطامعُ
وقال أيضاً:
ومن يكُ عاقلاً لم يلقَ بُؤساً ... يُنِخْ يوماً بِساحته القَضاءُ
تُعاورهُ بناتُ الدَّهرِ حتَّى ... تُثلِّمه كما ثلمَ الإناءُ
وكلُّ شديدة نزلتْ بحيٍّ ... سيأتي بعد شِدَّتها رخاءُ
فقل للمتَّقي غرضَ المنايا ... توقَّ وليس ينفعكَ اتِّقاءُ
فما يُعطَى الحريصُ غِنًى بحرص ... وقد يَنمِي لدى الجود الثَّراءُ
يُريد المرءُ أن يلقَى نعيماً ... ويأبَى الله إلاَّ ما يشاءُ
وقال مهرب الغامديّ بل هي لنهشل بن حري:
أرى الدَّهر لا يرعَى على أهل ثروة ... خؤوناً ويبدأ أهلَه بعقُوقِ
فمن يكُ نَصباً للمنون وريبها ... يكن بحِمام الموت غير سبوقِ
وكم قد رأينا من مُلوك وسُوقة ... وعيش لذيذ للعيون أنيقِ
مضى فكأن لم يغن بالأمس أهله ... وكلُّ جديد صائر لخُلوقِ
وقال الحارث بن عوف الغامديّ:
فإن أكبرْ فإنِّي في لِدَاتي ... وعاقبةُ الأصاغِرِ أن يَشيبوا
وما كبرتُ فائدتي بغَدْرٍ ... كفاني في الفوائد ما يطيبُ
أبَى لي ذاكمُ خالي وعمِّي ... وفضلُ المال والصَّدرُ الرحيبُ
قوله: " فإن أكبرْ فإنِّي في لِدَاتي " في نهاية التعزِّي والتسلِّي عن الشباب. يريد: إنِّي ما أُصبت بالشيب وحدي فأغتمّ، ولكن قد أُصبت مع غيري، فهذا يُسلِّي عنِّي. ومثل هذا ما أنشدنا ابن دريد لبعض الأعراب: