ومثله زُفَر بن الحارث وقد فرَّ يوم مرج راهط في شعر له:
فلم تُبلَ منِّي نبوةٌ قبل هذه ... فِراري وتركي صاحبيَّ ورائيا
عشيَّة أجرِي بالقَرينِ فلا أرَى ... من النَّاسِ إلاَّ مَن عليَّ ولا لِيا
أيذهبُ يومٌ واحدٌ إنْ أسأتُهُ ... بصالحِ أيَّامي وحُسنِ بلائيا
فلا تحسَبوني إنْ تغيَّبتُ غافلاً ... ولا تفرَحوا إن جئتُكم بلقائيا
فقد ينبتُ المرعَى على دِمَن الثَّرَى ... وتبقَى حَزازاتُ النُّفوس كما هِيا
فهذان الشاعران ذكرا أنَّ فرارهما كان مرّةً واحدةً في الدَّهر، وقد اعتذر غيرهما بغير هذا فقال:
قالت أُمامةُ لم تكنْ لك عادةٌ ... أن تتركَ الأصحابَ حتَّى تُعذرا
لو كانَ قتلٌ يا أُمامَ فراحةٌ ... لكنْ فررتُ مخافةً أنْ أُوسَرا
فهذا ذكر أنَّ فراره لم يكن خوفاً من القتل بل من الأسر، وقد أخذ هذا المعنى بعض المحدثين فقال:
أطال إساري في الصَّبابة هجرُهُ ... وعند الشّجاع الأسرُ شرٌّ من القتلِ
وممَّن ذكر أنَّه يقاتل وهو يرى وجهاً للقتال ويفرُّ إذا لم يرَ لذلك وجهاً عمرو بن معدي كرب بقوله:
ولقد أملأُ رحلَيَّ بها ... حذرَ الموت وإنِّي لفَرورُ
ولقد أعطِفُها كارِهةً ... حين للنَّفسِ من الموتِ هَريرُ
كلّ ما ذلك منِّي خُلُقٌ ... وبكلٍّ أنا في الحربِ جَديرُ
وقريب من هذا قول أبي خراش:
فإنْ تزعُمي أني جبُنتُ فإنَّني ... أفرُّ وأرمِي مرَّةً كلّ ذلكِ
أُقاتلُ حتَّى لا أرَى لي مُقاتلاً ... وأنجُو إذا ما خفتُ بعضَ المهالكِ
وقد ذكر بعضهم وقد عُبِّر بالفرار أنَّه لم يفرَّ حتَّى فرَّ أصحابه، وهو عبد الله بن الحميّر العقيليّ أخو توبة، وكان لقي حرباً ففرَّ فاعترضه بعض أصحابه فقال له: أردِفني، فلم يفعل وقال:
غداةَ يقولُ القَينُ هل أنتَ مُردِفي ... وما بين ظهر القَين والرُّمح إصبعُ
فقلتُ له يا بنَ المُريبة إنَّها ... بربٍّ خفيفً واحدٍ هي أسرعُ
فإنْ يكُ عاراً يومَ وجٍّ أتيتُه ... فِراري فذاك الجيشُ قد فرَّ أجمعُ