قَالَ ذُو النُّونِ: " فَقُلْتُ: طَرَقَتِ الْفِكْرَةُ فِي قُلُوبِ أَهْلِ الرِّضَا فَمَالَتْ بِهِمْ مَيْلَةً، فَزَعْزَعَتِ الْجَوَى، وَدَكْدَكَتِ الضَّمِيرَ، فَاخْتَلَفَا جَمِيعًا، فَالْتَوَيَا فَعَرَفَتَا طَرِيقَ الرِّضَا مِنْهُمْ بِالْأُلْفَةِ إِلَيْهِ، فَوَهَبَ لَهُمْ هِبَةً ثُمَّ أَتْحَفَهُمْ بِتُحَفِ الرِّضَا، فَمَاجَتْ فِي بِحَارِ قُلُوبِهِمْ مَوْجَهٌ فَهَيَّجَتْ مِنْهَا اللَّذَّةَ لَا بَلْ هَيَّجَتْ مِنْهَا هَيَجَانَ اللَّذَّاتِ، فَشَخَصَتْ بِالْحَلَاوَةِ الَّتِي أُتْحِفَتْ إِلَى مَنْ أَتْحَفَهَا، فَمَرَّتْ تَطِيرُ مِنْ جَوْفِ الْجَوَى فَأَيُّ طَيْرَانٍ يَكُونُ أَبْهَى مِنْ قُلُوبٍ تَطِيرُ إِلَى سَيِّدِهَا، لَقَدْ هَبَّتْ إِلَيْهِ بِلَا أَجْنِحَةٍ تَطِيرُ، لَقَدْ مَرَّتْ فِي الْمَلَكُوتِ أَسْرَعَ مِنْ هُبُوبِ الرِّيَاحِ وَمَنْ يَرُدَّهَا وَهُوَ يَدْعُوهَا إِلَيْهِ، لَقَدْ فَتَحَ الْبَابَ حِينَ هَبَّتْ طَائِرَةً فَدَخَلَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْرَعَ الْبَابَ لَقَدْ مَهَّدَ -[365]- لَهَا مِهَادًا، فَتَنَزَّهَتْ فِي رَوْحِ رِيَاضِ قُدْسِهِ فَهِيَ لَهُ وَمَعَهُ. فَقَالَ: يَا ذَا النُّونِ زِدْتَ الْجُرْحَ قَرْحًا، وَقَتَلْتَ فَأَوْجَعْتَ، يَا هَذَا مَا صَحِبْتُ صَاحِبًا مُنْذُ صَحِبْتُهُ أَصْحَبُكَ الْيَوْمَ. قُلْتُ: فَقُمْ بِنَا. فَقُمْنَا جَمِيعًا نَسِيرُ بِلَا زَادٍ فَلَمَّا وَغَلْنَا فِي الْبَرِيَّةِ وَطَوَيْنَا ثَلَاثًا فَقَالَ لِي: قَدْ جُعْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَقْسِمْ عَلَيْهِ حَتَّى يُطْعِمَكَ، قُلْتُ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَا تَسْأَلْهُ شَيْئًا إِنْ شَاءَ أَطْعَمَكَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ. قَالَ: فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: امْضِ الْآنَ فَلَقَدْ أُفِيضَ عَلَيْنَا مِنْ أَطَايِبِ الْأَطْعِمَةِ وَلَذِيذِ الْأَشْرِبَةِ حَتَّى دَخَلْنَا مَكَّةَ سَالِمَيْنِ، ثُمَّ فَارَقَنِي وَفَارَقْتُهُ. قَالَ يُوسُفُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ ذَا النُّونِ كُلَّمَا ذَكَرَهُ بَكَى وَتَأَسَّفَ عَلَى صُحْبَتِهِ "