لابد إذن من الاقتناع بأهمية القرآن في بناء الإيمان وتحقيق العبودية .. هذه القناعة ستثمر بمشيئة الله رغبة، وعلى قدر الرغبة والعزم يكون المدد من الله، فالإمداد على قدر الاستعداد، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "ومن يتحر الخير يُعطه " (?).
وجاء في الأثر عن أبي الدرداء قال: لما أهبط الله آدم إلى الأرض قال له: يا آدم أحبني وحببني إلى خلقي، ولن تستطيع أن تفعل ذلك إلا بي، ولكن إذا رأيتك حريصاً على ذلك أعنتك عليه، فإذا فعلت ذلك فخذ به اللذة والنظرة وقرة العين والطمأنينة (?).
فالرغبة والحرص هما مفتاح الانتفاع بالقرآن، ومفتاح لكل خير (?) .. ألم يقل سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:27، 28].
ومع الرغبة والحرص هناك بعض الوسائل التي من شأنها أن تسرع الخطى بنا للدخول إلى عالم القرآن والاغتراف من معينه ... هذه الوسائل يمكن أن نستخلصها من التفكر في هدفنا من التعامل مع القرآن، ألا وهو التعرف على الله عز وجل وإنشاء الإيمان في القلب وبث الروح فيه، فالمعرفة تستدعي فهماً للآيات، واستمراراً لقراءتها والتعامل معها حتى يرسخ مدلولها في العقل، وتستدعي كذلك تجاوب المشاعر معها حتى تثمر إيماناً في القلب .. هذا الإيمان لن يستقر في القلب، ولن يشكل جزءاً أصيلاً من المشاعر إلا إذا حدث تكرار واستمرارية في الطرق على تلك المشاعر.
إذن فقد وضحت أمامنا الوسائل ... مداومة على القراءة اليومية وبأكبر وقت ممكن ... قراءة في مكان هادئ -قدر المستطاع - يستجمع فيه المرء شوارد فكره ليستعين بذلك على التركيز مع الآيات وفهمها ...
أيضاً لابد من تهيئة المشاعر واستجماعها مع القراءة وذلك يمكن حدوثه من خلال التباكي مع القرآن وتكلف الحزن ...
وكذلك فإن القراءة الجهرية والترتيل وتحسين الصوت لهما أثر كبير في استثارة المشاعر وعدم شرود الذهن.
وكما نُعمل عقولنا في أي شيء نقرؤه لكي نفهمه، علينا أن نفعل ذلك مع القرآن، فإذا ما حدث تأثر بآية من الآيات علينا أن نُكثر من ترديدها ليستقر مدلولها في عقولنا، وينمو الإيمان بها في قلوبنا .. وشيئا فشيئا يستقر هذا الإيمان في المشاعر.
بهذه الوسائل السهلة يمكننا بمشيئة الله الانتفاع بالقرآن.
ومما تجدر الإشارة إليه أن هذه الوسائل تدور في فلك الأمرين اللذين أمرنا الله بهما عند قراءة القرآن:
الأمر الأول: تدبره عند قراءته: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ} [محمد:24].
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]
والأمر الثاني: ترتيله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4].
فالتدبر يخاطب العقل، والترتيل يخاطب المشاعر، فإذا ما قمنا بتنفيذ هذين الأمرين في نفس الوقت فسيؤدي ذلك إلى مزج الفكر بالعاطفة، ومن ثَمَّ زيادة الإيمان في القلب فنحقق قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2].
إن كان الجيل الأول قد تحقق بصفات الربانيين، والعيش في حقيقة العبودية، فإن العامل الأساسي لهذا النجاح هو القرآن كما أسلفنا، فلقد كانوا يتعاملون معه على حقيقته، وكان أستاذهم ومربيهم محمد صلى الله عليه وسلم يتابعهم في ذلك، ويرشدهم إلى الوسائل النافعة المعينة على فهمه والتأثر به.