نموذج لا يُنسى:

وقبل أن نختم الحديث في هذا الفصل نسوق كلاما للشهيد سيد قطب حول النموذج الذي صنعه القرآن، والذي تمثل في الجيل الأول، وكيف وصلوا إلى معرفة الله وتحققوا بصفات الربانيين .. يقول رحمه الله:

لقد كنت - وأنا أراجع سيرة الجماعة المسلمة الأولى - أقف أمام شعور الجماعة الأولى بوجود الله - سبحانه - وحضوره في قلوبهم وفي حياتهم، فلا أكاد أُدرك كيف تم هذا؟ كيف أصبحت حقيقة الألوهية حاضرة في قلوبهم وفي حياتهم على هذا النحو العجيب؟ كيف امتلأت قلوبهم وحياتهم بهذه الحقيقة هذا الامتلاء؟ كيف أصبحت هذه الحقيقة تأخذ عليهم الفجاج والمسالك والإتجاهات والآفاق، بحيث تواجههم حيثما اتجهوا، وتكون معهم أينما كانوا وكيفما كانوا؟

كنت أدرك طبيعة وجود هذه الحقيقة وحضورها في قلوبهم وفي حياتهم .. ولكني لم أكن أُدرك كيف تم هذا؟! حتى عُدت إلى القرآن أقرأه على ضوء موضوعه الأصيل وهو:

(تجلية حقيقة الألوهية، وتعبيد الناس لها وحدها بعد أن يعرفوها .. ).

وهنا فقط أدركت كيف تم هذا كله! أدركت ولا أقول - أحطت - سر الصناعة! عرفت أين صُنع ذلك الجيل المتفرد في تاريخ البشرية وكيف صُنع! إنهم صُنعوا ها هنا بهذا القرآن! بهذا المنهج المتجلي فيه! بهذه الحقيقة المتجلية في هذا المنهج! حيث تحيط هذه الحقيقة بكل شيء، وتغمر كل شيء، ويصدر عنها كل شيء، ويتصل بها كل شيء، ويتكيف بها كل شيء.

لقد وُجدت هذه الحقيقة في نفوس الناس وفي حياتهم كما لم توجد من قبل قط في نفوس الناس وفي حياتهم .. وُجدت بكل مقوماتها، وبكل إيحاءاتها، وبكل تأثيراتها .. وُجدت حية فاعلة قوية شاملة .. تتعامل مع الناس - كما تتعامل مع الوجود كله - ويتعامل معها الناس - كما يتعامل معها الوجود كله.

الله هو الأول والآخر. والله هو الظاهر والباطن. والله هو الخالق والرازق. والله هو المسيطر والمدبر. والله هو الرافع والخافض. والله هو المعز المذل. والله هو القابض والباسط. والله هو المحيي والمميت. والله هو النافع والضار. والله هو المنتقم الجبار. والله هو الغفور الودود. والله هو العلي الكبير. والله هو القريب المجيب. والله هو الذي يحول بين المرء وقلبه. والله هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. والله هو العليم بذات الصدور. وهو معهم أينما كانوا. وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو. وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته. وهو الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل. ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي. لا ملجأ من الله إلا إليه. وما لهم من دونه من وال، وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً.

وهكذا .. وهكذا .. جعلت هذه الحقيقة تملأ على الناس حياتهم، وتواجههم في كل درب، وتتراءى لهم في كل صوب، وتأخذ على أنفسهم أقطارها، وتعايشهم وتساكنهم بالليل والنهار، وبالغدو والأسحار، وحين يستغشون ثيابهم، وحين تهجس سرائرهم، وحين يستخفون من الناس. بل حين يستخفون من نفوسهم التي بين جنوبهم.

حقيقة الربانية:

بهذا كله وُجدت - في الأرض وفي دنيا الناس - حقيقة أخرى .. " حقيقة الربانية " متمثلة في ناس من البشر. وُجد " الربانيون " الموصولون بالله العائشون بالله ولله .. الذين ليس في قلوبهم وليس في حياتهم إلا الله، الذين فرغت قلوبهم من حظ أنفسهم، ولم يعد لهم حظ إلا في الله، ولله.

وُجدت حقيقة " الربانية " هذه في الناس، حينما وُجدت حقيقة الألوهية بصورتها في عالم الناس. حينما وُجدت بهذه القوة، وبهذا الوضوح، وبهذا العمق وبهذا الشمول، وبهذه الإحاطة التي تحجب كل وجود غيرها، وتكشف كل مؤثر سواها، وترد الأمر كله - كما هو في حقيقته - لله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015