نور الإيمان:

إن كنا نريد أن نتعامل مع الله عز وجل بما ينبغي أن نعامله به؛ فلابد أن نعرفه أولاً، وأن تنتقل هذه المعرفة من العقل إلى القلب، وأن تكون مستمرة ومتتابعة حتى يرسخ مدلولها في مشاعر الإنسان وقلبه وتصبح إيماناً راسخاً فتشكل بذلك منطلقاً للسلوك.

وكلما ازدادت مساحة المعرفة المؤثرة: ازداد انجذاب المشاعر لله عز وجل، وتمكن الإيمان من القلب، وتجلت فيه أنواره، وظهر أثر ذلك على معاملة المرء لربه، فيعبده وكأنه يراه، فيكتفي به، ويوحد معاملته معه، ويربط جميع أحداث حياته به سبحانه.

تأمل معي - أخي القارئ - ما قاله حارثة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يؤكد هذا المعنى:

عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "كيف أصبحت يا حارثة؟ "قال: أصبحت مؤمناً حقاً. قال: "انظر ما تقول، فإن لكل قول حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، قال: "يا حارثة عرفت فالزم" (?)، وفي رواية: "أصبت فالزم، مؤمن نور الله قلبه" (?).

ويقول ابن رجب: غاية الحاصل للقلوب في الدنيا هو تجلي أنوار الإيمان في القلب، وحتى يصير الغيب كأنه شهادة (?).

مفتاح المعرفة:

فإن قلت: وما هي الوسائل التي يمكنها أن تفعل ذلك وتصل بنا إلى هذه الآفاق؟!

كيف يمكن للإنسان أن يتعرف على ربه معرفة يقينية تؤثر في المشاعر بالرغم من أنه لا يراه، ولن يمكنه أن يراه في حياته الدنيا؟!

نعم، الله عز وجل لا تدركه الأبصار، ولا يمكن لأحد من البشر أن يراه: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، وفي الوقت نفسه فإنه يتحتم على العبد أن يعرف ربه لكي يعبده عبادة صحيحة، تليق به سبحانه وتعالى .. فما السبيل إلى ذلك؟!

السبيل إلى معرفة الله عز وجل هو استخدام النعمة العظيمة التي أكرم الله بها الإنسان واختصه بها، ألا وهي نعمة العقل .. هذا العقل به من الإمكانات والقدرات ما لا يمكن تصوره، والتي يستطيع الإنسان - أي إنسان - حين يستخدمها أن يصل إلى معرفة الله عز وجل لدرجة لم يصل إليها مخلوق من قبل.

هذه المعرفة تمكنه من معاملته وعبادته سبحانه كأنه يراه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015