ملامح عامة لطريق العبودية
كان الحديث في الصفحات السابقة عن حقيقة العبودية وأنها تعني ذل العبد وانكساره لربه، وارتباط حياته به، وافتقاره التام إليه، مع حبه وخشيته ودوام الإنابة والاستعانة به ..
ولو دققنا النظر في هذه المعاني لوجدنا أنها عبارة عن معاملات ينبغي أن يتعامل بها المرء مع الله عز وجل، بمعنى أنه يجب على العبد أن يعامل ربه بحب واشتياق، وأن يعامله بصدق وإخلاص، وأن يتعامل معه وهو يرهبه ويخشاه، وأن يعامله وهو يطمع فيما عنده، وأن يتعامل معه بتذلل وانكسار، وأن يتعامل معه كذلك وهو يستشعر افتقاره، وعظيم احتياجه إليه .. هذه المعاملات لا يمكن أن تتم بصورة تلقائية إلا إذا انطلقت المشاعر، فعلى سبيل المثال: لا يمكن لشخص أن يحب شخصاً آخر لمجرد أنه أُمر بذلك، فلغة القلوب لا يمكن تكلفها.
فالقلوب بصفة عامة تحب من يحسن إليها ويكرمها، ويحرص عليها، ويرأف بها.
والقلوب تخاف ممن تتأكد أنه يملك عقابها وحرمانها مما تحب.
والقلوب تفتقر وتتجه إلى من يملك احتياجاتها وما تريد.
والقلوب تطمئن وتسكن لمن تشعر بالحماية والأمن في جواره.
والقلوب تستعين بمن تراه قادراً على أن يفعل ما تريد ... وهكذا.
فإن كان الأمر كذلك فلماذا لا تتجه القلوب إلى الله وتتعامل معه بما هو أهله مع أنه سبحانه وتعالى يحسن إليها ويكرمها، ويملك احتياجاتها كلها، وهو القادر على فعل أي شيء، ويستطيع عقابها وحرمانها مما تحبه؟ ..
لماذا تتجه القلوب إلى بعض المخلوقين بالتعظيم والتوقير ولا تتجه إلى الخالق العظيم ذي الجلال والإكرام؟
السبب وراء ذلك هو الجهل به سبحانه، وبمقامه الجليل، وبقدره العظيم، والجهل كذلك بالطريقة التي يتعامل بها معنا من ود، وحب، وشفقة .. تأمل معي هذه الآية: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13]، فعدم معرفة هؤلاء بالله جعلتهم يرهبون البشر أكثر من رهبتهم لله.
يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه الأرض وعنقه مثنية تحت العرش، وهو يقول: سبحانك ما أعظمك، فيرد عليه: لا يعلم ذلك من حلف بي كاذبا" (?).
تخيل أنك ذهبت إلى السوق ودخلت حانوتًا من الحوانيت وقابلت فيه رجلاً يتسوق مثلما تتسوق، ودار بينكما حديث ومن خلاله عرفت أن هذا الرجل يعمل وزيراً في حكومة بلدك، هل ستستمر في الحديث معه بنفس الطريقة التي بدأت بها أم ستتغير ليكسوها الاحترام والحذر؟! .. بلا شك أن معرفتك به ستدفعك إلى تغيير معاملتك له ..
فطريقة المعاملة تحددها درجة المعرفة، وكلما ازدادت المعرفة تغيرت المعاملة، وهذا ما حدث مع سيدنا موسى - عليه السلام - عندما رأى آثار جلال الله على الجبل الذي اندك فخر - عليه السلام - صعقاً، فلما أفاق ماذا قال لربه؟!
{فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]، فإن كان هذا قوله عند رؤية أثر جلال الله على الجبل، فكيف لو رأي الله عز وجل؟!