هذا الدعاء يحتاج إلى تضرع وحضور قلب حتى يتقبله الله عز وجل كما طالبنا سبحانه وتعالى بذلك: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55].
وإذا غاب الوقود توقفت المركبة بصاحبها، فظل مكانه كما أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأعلموا أن الله لا يقبل الدعاء من قلب غافل لاه" (?).
فلابد إذن من الاثنين معا: المركبة والوقود .. الشكل والمضمون .. العبادة والعبودية، وكلما اقترن الإثنان معاً ازداد القرب من الله عز وجل: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] .. والحديث القدسي الذي يجمع كل ذلك: إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل بها على خلقي، ولم يبُت مصراًً على معصيتي، وقطع نهاره في ذكري، ورحم المسكين وابن السبيل، والأرملة والمصاب .. " (?).
مما يدعو للأسف أن الكثير من المسلمين قد أصبح اهتمامه بالشكل دون المضمون .. يهتم ويجتهد ويبالغ ويدقق في دقائق الشكل، ولا يفكر في المضمون بنفس الطريقة، بل قد لا يفكر فيه أساسا .. فعلى سبيل المثال: العلم، فلقد فُضِّل العلم لأنه وسيلة عظيمة لمعرفة الله وخشيته وتقواه: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج:54]، وإذا لم يُثمر ذلك فهذا هو العلم الذي تعوذَّ منه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها" (?).
وقديماً حذر الإمام ابن الجوزي من الانشغال بصورة العلم دون فهم مقصوده، فقال: رأيت أكثر العلماء مشتغلين بصورة العلم، دون فهم حقيقته ومقصوده.
فالقارئ مشغول بالروايات، عاكف على الشواذ، يرى أن المقصود نفس التلاوة، ولا يتلمح عظمة المتكلم، ولا زجر القرآن ووعده .. وربما ظن أن حفظ القرآن يدفع عنه، فتراه يترخص في الذنوب، ولو فهم لعلم أن الحجة عليه أقوى ممن لم يقرأ (?).
والمثال الآخر الذي يدل على الإهتمام بالشكل دون المضمون: هيئة المساجد: فالمساجد هي بيوت الله، ومِن ثَمَّ فينبغي لمن يدخلها من العباد ويصلي فيها لله أن يُظهر استكانته، وخضوعه وذله لصاحب البيت الذي هو ربه وولي نعمته.
هذه الحالة ينبغي أن تنسجم معها هيئة تلك المساجد، لكن الحادث غير ذلك، فقد بالغ الناس في زخرفتها، وفرشها، وإضاءتها وتزيينها، يقول أبو الدرداء: إذا حليتم مصاحفكم، وزوقتم مساجدكم فالدمار عليكم (?).
فزخرفة المساجد تعكس انشغال الناس عن حقيقة العبودية واهتمامهم بالشكل دون المضمون مما يعرضهم إلى مقت الله عز وجل، ومما يؤكد هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد في الزهد عن أبي حصين قال: كان يقال: إذا ساء عمل أمة زينوا مساجدهم (?).
فتزيين المساجد عمل سهل يقدر عليه الجميع، ويظنون من خلال قيامهم به أنهم يخدمون الدين ويؤدون حقه عليهم، ومن ثَم فلا عليهم بعد ذلك ملامة فيما يقصرون فيه.
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: إن مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي، تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي، فهو ساحة للعبادة، ومدرسة للعلم، وندوة للأدب، لكن الناس لما أعياهم بناء النفوس على الأخلاق الجليلة استعاضوا عن ذلك ببناء المساجد السامقة التي تضم مصلين أقزاما!!!