بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
ففي يوم من الأيام ذهب ثلاثة من الصحابة - رضوان الله عليهم - إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليسألوا عن عبادته حتى يحذوا حذوه، فلما أُخبروا بقدر تلك العبادة كأنهم تقالُّوها (أي اعتبروها قليلة)، وقالوا: أين نحن من النبي عليه الصلاة والسلام وقد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! ثم بدأ كل واحد منهم يتحدث عن عبادته، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر أبدًا ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا اعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (?).
هذا الحديث العظيم يعلمنا أن العبرة في سباق السائرين إلى الله ليست بكثرة عبادات الجوارح، بل العبرة بما في القلوب من معاني العبودية لله عز وجل «أما إني لأخشاكم لله وأتقاكم له».
وغني عن البيان أن عبادات الجوارح هي المظهر والشكل الذي من خلاله يُظهر ما في القلب من معاني العبودية لله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
فعبادات الجوارح على درجة بالغة من الأهمية كمظهر وشكل ينبغي الالتزام به في تقربنا إلى الله عز وجل.
ومع ذلك؛ فإن الجهد الأكبر الذي ينبغي أن يُبذل في العبادة هو الاجتهاد في إظهار معاني العبودية لله عز وجل من خلالها؛ وكما أخبرنا سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37].
إن السباق إلى الله عز وجل إنما هو سباق قلوب، والقلب الذي يسبق هو الذي يحوي القدر الأكبر من العبودية الحقيقية له سبحانه {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، ولقد جاء في الأثر: ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة، ولا صيام، ولكن بشيء وقر في صدره ..
فإن كان الأمر كذلك: فما العبودية؟ وما حقيقتها؟ وما طريقها؟
هذا ما تُحاول - بإذن الله - الصفحات التي بين يديك - أخي القارئ - الإجابة عليه بصورة إجمالية.
نسأل الله عز وجل العون والتوفيق والسداد والتجاوز عن الزلات، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32].