يقول د. محمد سعيد رمضان البوطي: العبادة هي الوظائف البدنية التي كلف الله عباده بها، من صلاة وصيام وحج وغيرها من العبادات. أما العبودية فهي الذل الذي يهيمن على كيان الإنسان ومشاعره لخالقه، فيقوده إلى تعظيمه ومهابته، وإلى الالتجاء الدائم إليه بالاستغفار والدعاء والرجاء، ومن ثم فهو لا يدين بالولاء والتعظيم لأي كائن غيره.
وعلاقة ما بين العبادة والعبودية أن العبادة وعاء للعبودية، ومن ثَمَّ فإن قيمة العبادة تكمن في القدر الذي تنطوي عليه من معنى العبودية. ذلك لأن الذي يقرب العبد إلى الله تحققه بمعنى العبودية له، وإنما شُرعت العبادات وسيلة لذلك (?).
ويقول كذلك: ثم اعلم أن للطاعات والقربات المتنوعة التي شرعها الله وأمر بها، ثمرة واحدة لا ثانية لها، وهي سر قبول الله لها وإثابته عليها، ألا وهي ثمرة الافتقار إلى الله والتوجه إليه بذل العبودية والضراعة والانكسار.
بل المطلوب من الإنسان أن يكون في كل أحواله وتقلباته مستشعراً حقيقة الافتقار إلى الله متصفاً بذل العبودية لله، ملتصقاً بأعتاب جوده وكرمه، وما شُرعت العبادات والطاعات إلا لتكون تذكرة لهذا المطلوب، وترسيخاً لمشاعر العبودية لله والافتقار إليه في نفس الإنسان (?).
من هنا يتبين لنا أن القيمة العظمى للعبادة هي إظهارها لمعاني العبودية لله عز وجل، مع الأخذ في الاعتبار أنه لا يجوز ابتداع شكل آخر غير الأشكال التي طالبنا الله بها وبينها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالطرق إلى الله كلها مسدودة إلا الطريق الذي يقف عليه محمد صلى الله عليه وسلم.
وإليك أخي القارئ مثالاً يوضح أهمية الشكل ونسبته إلى المضمون:
عندما يذهب الواحد منا إلى مصلحة كمصلحة الأحوال المدنية ليستخرج بطاقة للأحوال الشخصية أو مستخرجاً رسمياً لشهادة الميلاد، فإنه يقدم طلبه على نموذج معد لذلك، ويستوفي الشروط المطلوبة لصحة الطلب، ثم يكتب ما يريده بعد ذلك.
فإذا قام بتقديم طلبه على ورقة أخرى غير هذا النموذج، فلن يُلتفت إلى طلبه مهما كتب فيه.
وإن قدم النموذج المطلوب واستوفى شروطه ولكنه لم يكتب فيه شيئا مما يريد، فسيُطرح طلبه جانباً من قِبل المختصين لأنهم لم يعرفوا ماذا يريد.
إذن فالنموذج مطلوب، وملؤه بالبيانات كذلك مطلوب .. فلابد من الإثنين معاً.
كذلك العبادة بالجوارح والعبودية بالقلب.
فالعبادة مهمة جداً كشكل ونموذج طالبنا الله عز وجل أن ندخل عليه من خلاله.
ولكن إذا اجتهدنا في تحصيل الشكل الظاهري لتلك العبادة، وبالغنا في إتقانه دون أن نملأه بمعاني العبودية، فقد ضاع تعبنا ... تأمل معي قوله صلى الله عليه وسلم: "رُب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُب قائم ليس له من قيامه إلا السهر" (?).
ولو قمنا بإظهار معاني العبودية لله عز وجل ولكن بشكل مبتدع مخالف للذي ارتضاه لنا فلن يُقبل منا، وسيُرَد علينا كما قال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَد" (?)، فلو أن شخصا اتجه في صلاته متعمداً لغير القبلة وكانت صلاته خاشعة متذللة متمسكنة فلن تُقبل منه، وفي المقابل لو صلى في اتجاه القبلة، وأتى بجميع حركات الصلاة الصحيحة وقلبه غافل لاهٍ ساهٍ فما قيمة صلاته؟! ألم يقل صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم" (?).