وكان من حقوق الترك أن يقابلوهم بالمثل، ولذا صار الترك يتصدونهم كما يتصيدون الحيوانات المفترسة مقيمين من عظامهم هرماً عظيماً.
ولم يلبث جيش الصليبيين الأول المؤلف من مئات الألوف أن أبيد، وإنما كانت تأتي من خلفه فيالق منظمة تامة العدة مؤلفة من سبعمائة ألف مقاتل بقيادة أقوي السنيورات، أي كان يأتي من الفيالق ما لم يسبق للعرب أن جمعوا جيشاً لجباً مثله.
ومن هذه الفيالق نذكر الفيلق الذي كان يقوده دوك اللورين الدنيا، غودوفروا البويوني، والذي كان مؤلفاً من ثمانين ألف مقاتل من سكان اللورين وبافارية وسكسونية.
وحاصر الصليبيون مدينة إزنيق الواقعة في آسية الصغرى، وهزموا جيشاً تركياً، وقطعوا رؤوس جرحى الترك وربطوها بسروج خيولهم وعادوا إلى معسكرهم، ثم رموها إلى تلك المدينة التي كانت محاصرةً.
ولم يكن ذلك مما يرضي الأهلين، فسلم الأهلون -الذين علموا ماذا كان ينتظرهم- أمر أنفسهم إلى القيصر بالقسطنطينية، فاضطر حلفاؤه الصليبيون إلى القتال مرتدين.
وبقي على الصليبيين أن يقطعوا نحو مئتي فرسخ ليصلوا إلى سورية، وكان همهم مصروفاً إلى الاغتناء، ولم يحسنوا سياسة الأهلين، وخربوا البلاد، وكشر الجوع لهم عن أنيابه، واضطرب حبل نظامهم، وتفرقوا، وتقاتل من قادتهم القائدان المهمان: تانكريد وبودوين، ثم انفصل بودوين عن رفقائه هو وفيلقه كي يسلب ويحارب لحساب نفسه.
وفتكت الأمراض والمجاعة بالصليبيين فتكاً ذريعاً، وقنط بطرس الناسك من النصر وفر من المعسكر، وأعيد إليه، فاستقبله تانكريد بضرب العصي.
ودبت الفوضى في مفاصل الجيش الصليبي، وشاع التجسس فيه، وأمر بوهيموند بتقطيع الجواسيس وطهيهم وإطعامهم للجنود الجائعين، فتدابير كهذه تخبرنا عن حال جيش اضطر إلى اتخاذها.
ويدل سلوك الصليبيين في جميع المعارك على أنهم من أشد الوحوش حماقة، فقد كانوا لا يفرقون بين الحلفاء والأعداء، والأهلين العزل والمحاربين، والنساء والشيوخ والأطفال، وقد كانوا يقتلون وينهبون على غير هدى.
ونرى في كل صفحةٍ من الكتب التي ألفها مؤرخو النصارى في ذلك الزمن براهين على توحش الصليبيين، ويكفي لبيان ذلك أن ننقل الخبر الآتي الذي رواه الشاهد الراهب