الرب للذين يزحفون لإنقاذ قبر المسيح بالمغفرة، وتؤثر فصاحته التمثيلية الخيالية في قلوب الجموع، ويعده الناس نبياً في كل مكان.
ولم تكن الجموع التي ألهبها بطرس الناسك لتستطيع عمل شيء وحدها، وإنما حدث ما حفز السنيورات الذين كانوا سادة للجموع إلى دعم تلك الحركة، وذلك أن قيصر الروم، ألكسيس كومنين، الذي كانت دولته تخسر كل يوم قطعة من أملاكها، استغاث بالبابا وملوك أوربة حينما حاصر الترك القسطنطينية، فأقام ذلك العالم النصراني وأقعده بالإضافة إلى مواعظ بطرس الناسك.
ورأى البابا أن يشجع تلك الحركة، فعقد في إيطالية مؤتمراً ديناً لم يسفر عن نتيجة، ثم عقد في سنة 1095 م مؤتمراً ثانياً في كليرمون بأوفون، وحضر بطرس الناسك هذا المؤتمر الأخير، وتحالف المؤتمرون، تلبية لدعوته الصارمة وترديد الجموع الهائجة لكلمة: «الرب يريد ذلك»! على الزحف إلى فلسطين لإنقاذ قبر الرب ملصقين الصلبان على أكتافهم، وأجمع المؤتمرون على أن يبدأ بالزحف في عيد انتقال العذراء من السنة القادمة حتى يجمع أولياء الأمور جيشاً كبيراً قادراً على القيام بذلك.
نشأ عن عزم القوم على غزو فلسطين اشتعال النفوس حمية، وصار كل واحد يرجو إصلاح حاله، فضلاً عما يناله في ملكوت السماوات، فغدا العبيد يطمعون في فك رقابهم، وغدا أبناء الأسر الذين حرموا الميراث بسبب نظام البكرية والسنيورات الذين كانت قسمهم ضئزى يطمعون في الاغتناء، وغدا الرهبان الذين أضنتهم حياة الأديار وجميع المحرومين طيب العيش، وكان عددهم كبيراً يعللون أنفسهم بأطيب الأماني.
حقاً لقد أصاب القوم نوبة حادة من الجنون، فرغب السنيورات والعبيد والرهبان والنساء والأولاد وجميع الناس في الزحف، وأخذ كل امرئ يبيع ما يملك ليتجهز، واستعد من الرجال 130000 مقاتل لغزو فلسطين حالاً.
وكانت تلك النوبة تزيد حدة كل يوم، ولم يرغب الذين بكروا في انتظار تأليف جيش منظم، وما كاد ربيع سنة 1096 م يحل حتى توجهت عصابات كبيرة من كل صوب وحدب إلى نهر الدانوب.
وكانت الحركة شاملة ما بين بحر الشمال ونهر التيبر، وكانت تجرف سكان بعض القرى آخذين ما عندهم من الأموال، وكانت أوربة كلها تنقض على آسية.