مطرقا وَالسُّجُود والنطق بِأَلْفَاظ دَالَّة على الْمُنَاجَاة والتذلل لَدَيْهِ وَرفع الْحَاجَات إِلَيْهِ، فَإِن هَذِه الْأُمُور تنبه النَّفس تَنْبِيها قَوِيا على صفة
الخضوع والاخبات، وَأَسْبَاب السماحة التمرن على السخاوة والبذل وَالْعَفو عَمَّن ظلم ومؤاخذة نَفسه بِالصبرِ عِنْد المكاره وَنَحْو ذَلِك، وَأَسْبَاب الْعَدَالَة الْمُحَافظَة على السّنة الراشدة بتفاصيلها وَالله أعلم.
اعْلَم أَن مُعظم الْحجب ثَلَاثَة: حجاب الطَّبْع، وحجاب الرَّسْم، وحجاب سوء الْمعرفَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ركب فِي الْإِنْسَان دواعي الْأكل وَالشرب وَالنِّكَاح، وَجعل قلبه مَطِيَّة للأحوال الطبيعية كالحزن والنشاط وَالْغَضَب والوجل وَغَيرهَا، فَلَا يزَال مَشْغُولًا بهَا، إِذْ كل حَالَة يتقدمها توجه النَّفس إِلَى أَسبَابهَا وانقياد القوى العلمية لما يُنَاسِبهَا، ويجتمع مَعهَا استغراق النَّفس فِيهَا وذهولها عَمَّا سواهَا، ويتخلف عَنْهَا بَقِيَّة ظلها ووضر لَوْنهَا، فتمر الْأَيَّام والليالي، وَهُوَ على ذَلِك لَا يتفرغ لتَحْصِيل غَيرهَا من الْكَمَال، وَرب إِنْسَان ارتطمت قدماه فِي هَذَا الوحل، فَلم يخرج مِنْهُ طول عمره، وَرب إِنْسَان غلب عَلَيْهِ حكم الطَّبْع، فَخلع رقبته عَن رَقَبَة الرَّسْم وَالْعقل، وَلم ينزجر بالملامة، وَهَذَا الْحجاب يُسمى بِالنَّفسِ، لَكِن من تمّ عقله، وتوفر تيقظه يختطف من أوقاته فرصا يركد فِيهَا أَحْوَال الطبيعة، ويتسع نَفسه لهَذِهِ الْأَحْوَال وَغَيرهَا، ويستوجب لفيضان عُلُوم أُخْرَى غير اسْتِيفَاء مقتضيات الطَّبْع، ويشتاق إِلَى الْكَمَال النوعي بِحَسب القوتين الْعَاقِلَة والعاملة؛ فَإِذا فتح حدقة بصيرته أبْصر فِي أول الْأَمر قومه فِي ارتفاقات وزي ومباهات وفضائل من الفصاحات والصناعات، فَوَقَعت من قلبه بموقع عَظِيم، واستقبلها بعزيمة كَامِلَة وهمة قَوِيَّة، وَهَذَا حجاب الرَّسْم وَيُسمى بالدنيا.
وَمن النَّاس من لَا يزَال مُسْتَغْرقا فِي ذَلِك إِلَى أَن يَأْتِيهِ الْمَوْت، فتزول تِلْكَ الْفَضَائِل بأسرها، لِأَنَّهَا لَا تتمّ إِلَّا بِالْبدنِ والآلات، فَتبقى النَّفس عَارِية
لَيْسَ بهَا شَيْء، وَصَارَ مثله كَمثل ذِي جنَّة أَصَابَهَا إعصار، أَو كرماد اشتدت بِهِ الرّيح فِي يَوْم عاصف، فَإِن كَانَ شَدِيد التنبه عَظِيم الفطنة استيقن بِدَلِيل برهاني أَو خطابي أَو بتقليد الشَّرْع أَن لَهُ رَبًّا قاهرا فَوق عباده، مُدبرا أُمُورهم، منعما عَلَيْهِ جَمِيع النعم، ثمَّ خلق فِي قلبه ميل إِلَيْهِ