ثمَّ نزل الْحق عَلَيْهِ وَهُوَ بحراء فَفَزعَ بطبيعته بِأَن تشوشت الْبَهِيمَة
من سننها لغَلَبَة الملكية فَذَهَبت بِهِ خَدِيجَة إِلَى ورقة، فَقَالَ: هُوَ الناموس الَّذِي نزل على مُوسَى، ثمَّ فتر الْوَحْي وَذَلِكَ لِأَن الْإِنْسَان يجمع جِهَتَيْنِ: جِهَة البشرية. وجهة الملكية فَيكون عِنْد الْخُرُوج من الظُّلُمَات إِلَى النُّور مزاحمات ومصادمات حَتَّى يتم أَمر الله، وَكَانَ يرى الْملك تَارَة جَالِسا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض. وَتارَة وَاقِفًا فِي الْحرم تصل حجزته إِلَى الْكَعْبَة وَنَحْو ذَلِك، وسره أَن الملكوت تلم بالنفوس المستعدة للنبوة فَكلما انفلتت برق عَلَيْهَا بارق ملكي حَسْبَمَا يَقْتَضِيهِ الْوَقْت كَمَا تَنْفَلِت نفوس الْعَامَّة فَتَطلع فِي الرُّؤْيَا على بعض الْأَمر.
قيل: " يَا رَسُول الله كَيفَ يَأْتِيك الْوَحْي؟ فَقَالَ: أَحْيَانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس وَهُوَ أشده عَليّ فَيفْصم عني وَقد وعيت مَا قَالَ: وَأَحْيَانا يتَمَثَّل لي الْملك رجلا فيكلمني فأعي مَا يَقُول ".
أَقُول: أما الصلصلة فحقيقتها أَن الْحَواس إِذا صادمها تَأْثِير قوي تشوشت، فتشويش قُوَّة الْبَصَر أَن يرى ألوانا الْحمرَة والصفرة والخضرة وَنَحْو ذَلِك، وتشويش قُوَّة السّمع أَن يسمع أصواتا مُبْهمَة كالطنين والصلصلة والهمهمة فَإِذا تمّ الْأَثر حصل الْعلم.
وَأما التَّمْثِيل فَهُوَ فِي موطن يجمع بعض أَحْكَام الْمِثَال وَالشَّهَادَة، وَلذَلِك كَانَ يرى الْملك بَعضهم دون الْبَعْض.
ثمَّ أَمر بالدعوة فاشتغل بهَا إخفاء فآمنت خَدِيجَة وَأَبُو بكر الصّديق. وبلال. وأمثالهم رَضِي الله عَنْهُم.
ثمَّ قيل لَهُ:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمر} .
وَقيل:
{وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} .
فجهر بالدعوة وَإِبْطَال وُجُوه الشّرك فتعصب عَلَيْهِ النَّاس وآذوه بألسنتهم وأيديهم كقصة إِلْقَاء سلى جزور والخنق وَهُوَ صابر فِي كل ذَلِك يبشر الْمُؤمنِينَ بالنصر وينذر