اعْلَم أَن جَمِيع سكان الأقاليم الصَّالِحَة اتَّفقُوا على مُرَاعَاة آدابهم فِي مطعمهم. وَمَشْرَبهمْ. وملبسهم. وقيامهم. وقعودهم. وَغير ذَلِك من الهيئات وَالْأَحْوَال، وَكَانَ ذَلِك كالأمر المفطور عَلَيْهِ الْإِنْسَان عِنْد سَلامَة مزاجه وَظُهُور مقتضيات نَوعه عِنْد اجْتِمَاع أَفْرَاد مِنْهُ، وتراءى بَعْضهَا لبَعض وَكَانَت لَهُم مَذَاهِب فِي ذَلِك.
فَكَانَ مِنْهُم من يسويها على قَوَاعِد الْحِكْمَة الطبيعية فيختار فِي كل ذَلِك مَا يُرْجَى نَفعه وَلَا يخْشَى ضَرَره بِحكم الطِّبّ والتجربة، وَمِنْهُم من يسويها على قوانين الْإِحْسَان حَسْبَمَا تعطيه مِلَّته، وَمِنْهُم من يُرِيد محاكاة مُلُوكهمْ وحكمائهم وَرُهْبَانهمْ، وَمِنْهُم من يسويها على غير ذَلِك، وَكَانَ فِي بعض ذَلِك مَنَافِع يجب التَّنْبِيه عَلَيْهَا وَالْأَمر بِهِ لأَجلهَا، وَفِي الْبَعْض الآخر مفاسد يجب أَن يُنْهِي عَنْهَا لأَجلهَا وينبه عَلَيْهَا، وَالْبَعْض الآخر غفل من الْمَعْنيين يجب أَن يبْقى على الأباحة ويرخص فِيهِ فَكَانَ تنقيحها والتفتيش عَنْهَا إِحْدَى الْمصَالح الَّتِي بعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا.
والعمدة فِي ذَلِك أُمُور:
فَمِنْهَا أَن الِاشْتِغَال بِهَذِهِ الأشغال ينسي ذكر الله ويكدر صفاء الْقلب فَيجب أَن يعالج هَذَا السم بترياق، وَهُوَ أَن يسن قبلهَا وَبعدهَا وَمَعَهَا أذكار تردع النَّفس عَن اطمئنانها بهَا بِأَن يكون فِيهَا مَا يذكر الْمُنعم الْحَقِيقِيّ ويميل الْفِكر إِلَى جَانب الْقُدس.
وَمِنْهَا أَن بعض الْأَفْعَال والهيآت تناسب أمزجة الشَّيَاطِين من حَيْثُ إِنَّهُم لَو تمثلوا فِي مَنَام أحد أَو يقظته لتلبسوا بِبَعْضِهَا لَا محَالة، فتلبس الْإِنْسَان
بهَا معد للتقرب مِنْهُم وانطباع ألوانها الخسيسة فِي نُفُوسهم فَيجب أَن يمْنَع عَنْهَا كَرَاهَة أَو تَحْرِيمًا حَسْبَمَا تحكم بِهِ الْمصلحَة كالمشي فِي نعل وَاحِدَة وَالْأكل بِالْيَدِ الْيُسْرَى، وَبَعضهَا مطردَة للشياطين مقربة من الْمَلَائِكَة كالذكر عِنْد ولوج الْبَيْت وَالْخُرُوج مِنْهُ، وَيجب أَن يحض عَلَيْهَا.