مفرط، فيستعمل مِنْهُ مَا يوهن أَرْكَانه، وَيذْهب نشاطه، وينفه نَفسه، ويزيره الْقُبُور، وَإِنَّمَا الصَّوْم ترياق يسْتَعْمل لدفع السمُوم النفسانية مَعَ مَا فِيهِ نكاية بمطية اللطيفة الإنسانية ومنصتها فَلَا بُد من أَن يتَقَدَّر بِقدر الضَّرُورَة.

ثمَّ إِن تقليل الْأكل وَالشرب لَهُ طَرِيقَانِ: أَحدهمَا أَلا يتَنَاوَل مِنْهُمَا إِلَّا قدرا يَسِيرا، وَالثَّانِي أَن تكون الْمدَّة المتخللة بَين الأكلات زَائِدَة على الْقدر الْمُعْتَاد، وَالْمُعْتَبر فِي الشَّرَائِع هُوَ الثَّانِي لِأَنَّهُ يُخَفف، وينفه، وَيُذِيق بِالْفِعْلِ مذاق الْجُوع والعطش، وَيلْحق البهيمية حيرة ودهشة، وَيَأْتِي عَلَيْهَا إتيانا محسوسا، وَالْأول إِنَّمَا يضعف ضعفا يمر بِهِ، وَلَا يجد بالاحتى يدفنه، وَأَيْضًا فَإِن الأول لَا يَأْتِي تَحت التشريع الْعَام إِلَّا بِجهْد، فَإِن النَّاس على منَازِل مُخْتَلفَة جدا يَأْكُل الْوَاحِد مِنْهُم رطلا وَالْآخر رطلين، وَالَّذِي يحصل بِهِ وَفَاء الأول هُوَ إجحاف الثَّانِي، أما الْمدَّة المتخللة بَين الأكلات، فالعرب والعجم وَسَائِر أهل الأمزجة الصَّحِيحَة يتفقون فِيهَا، وَإِنَّمَا طعامهم غداء وعشاء، أَو أَكلَة وَاحِدَة فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة، وَيحصل مذاق الْجُوع بالكف إِلَى اللَّيْل، وَلَا يُمكن أَن يُفَوض الْمِقْدَار الْيَسِير إِلَى المبتلين الْمُكَلّفين، فَيُقَال مثلا: ليَأْكُل كل وَاحِد مِنْكُم مَا تنقهر بِهِ بهيميته لِأَنَّهُ يُخَالف مَوْضُوع التشريع.

وَمن الْمثل السائر من استرعى الذِّئْب فقد ظلم، وَإِنَّمَا يسوغ مثل ذَلِك

فِي الإحسانيات، ثمَّ يجب أَن تكون تِلْكَ الْمدَّة المتخللة غير مجحفة وَلَا مستأصلة، كثلاثة أَيَّام بلياليها، لِأَن ذَلِك خلاف مَوْضُوع الشَّرْع، وَلَا يعْمل بِهِ جُمْهُور الْمُكَلّفين، وَيُحب أَن يكون الامساك فِيهَا متكررا، ليحصل التمرن والانقياد، وَإِلَّا فجوع وَاحِد أَي فَائِدَة يُفِيد، وَإِن قوى وَاشْتَدَّ، وَوَجَب أَن يذهب فِي ضبط الانقهار الْغَيْر المجحف وَضبط تكراره إِلَى مقادير مستعملة عِنْدهم لَا تخفى على الخامل والنبيه والحاضر والبادي، وَإِلَى مَا يَسْتَعْمِلهُ أَو يسْتَعْمل نَظِيره طوائف عَظِيمَة من النَّاس، لتذهب شهرتها وتسليمها غَايَة التَّعَب مِنْهُم.

وأوجبت هَذِه الملاحظات أَن يضْبط الصَّوْم بالامساك من الطَّعَام وَالشرَاب وَالْجِمَاع يَوْمًا كَامِلا إِلَى شهر كَامِل فَإِن مَا دون الْيَوْم هُوَ من بَاب تَأْخِير الْغَدَاء، وأمساك اللَّيْل مُعْتَاد لَا يَجدونَ لَهُ بَالا، والأسبوع والأسبوعان مُدَّة يسيرَة لَا تُؤثر، والشهران تغور فيهمَا الْأَعْين، وتنفه النَّفس، وَقد شاهدنا ذَلِك مَرَّات لَا تحصى.

ويضبط الْيَوْم بِطُلُوع الْفجْر إِلَى غرُوب الشَّمْس، لِأَنَّهُ هُوَ حِسَاب الْعَرَب وَمِقْدَار يومهم، وَالْمَشْهُور عِنْدهم فِي صَوْم يَوْم عَاشُورَاء، والشهر بِرُؤْيَة الْهلَال إِلَى رُؤْيَة الْهلَال لِأَنَّهُ هُوَ شهر الْعَرَب، وَلَيْسَ حسابهم على الشُّهُور الشمسية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015