قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " من سَأَلَ النَّاس ليثرى مَاله كَانَ خموشا فِي وَجهه أَو رضفا يَأْكُلهُ من جَهَنَّم " أَقُول: السِّرّ فِيهِ أَنه يتَمَثَّل تألمه مِمَّا يَأْخُذ من النَّاس بِصُورَة مَا جرت الْعَادة بِأَن يحصل الْأَلَم بِأَخْذِهِ كالجمر، أَو بِأَكْلِهِ كالرضف، وتتمثل ذلته فِي النَّاس وَذَهَاب مَاء وَجهه بِصُورَة هِيَ أقرب شَبيه لَهُ من الخموش.
وَجَاء فِي الرجل الَّذِي أَصَابَته جَائِحَة اجتاحت مَاله أَنه حلت لَهُ الْمَسْأَلَة حَتَّى يجد قواما من عَيْش.
وَجَاء فِي تَقْدِير الغنية الْمَانِعَة من السُّؤَال أَنَّهَا أُوقِيَّة أَو خَمْسُونَ درهما.
وَجَاء أَيْضا أَنَّهَا مَا يغديه أَو يعشيه.
وَهَذِه الْأَحَادِيث لَيست متخالفة عندنَا، لِأَن النَّاس على منَازِل شَتَّى، وَلكُل وَاحِد كسب لَا يُمكن أَن يتَحَوَّل عَنهُ، أَعنِي الْإِمْكَان الْمَأْخُوذ فِي الْعُلُوم الباحثة عَن سياسة المدن لَا الْمَأْخُوذ فِي علم تَهْذِيب النَّفس، فَمن كَانَ كاسبا بالحرفة فَهُوَ مَعْذُور حَتَّى يجد آلَات الحرفة، وَمن كَانَ زارعا حَتَّى يجد آلَات الزَّرْع، وَمن كَانَ تَاجِرًا حَتَّى يجد البضاعة، وَمن كَانَ على الْجِهَاد مسترزقا بِمَا يروح وَيَغْدُو من الْغَنَائِم. كَمَا كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالضابط فِيهِ أُوقِيَّة أَو خَمْسُونَ درهما، وَمن كَانَ كاسبا يحمل الأثقال فِي الْأَسْوَاق، أَو احتطاب الْحَطب وَبيعه وأمثال ذَلِك فالضابط فَهِيَ مَا يغديه أَو يعشيه.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا تلحفوا فِي الْمَسْأَلَة، فوَاللَّه لَا يسألني أحد مِنْكُم شيئل فَتخرج لَهُ مَسْأَلته مني شَيْئا، وَأَنا كَارِه، فيبارك لَهُ فِيمَا أَعْطيته ".
أَقُول: سره أَن النُّفُوس اللاحقة بالملأ الْأَعْلَى تكون الصُّورَة الذهنية فِيهَا من الْكَرَاهِيَة وَالرِّضَا بِمَنْزِلَة الدُّعَاء المستجاب.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِن المَال حضر حُلْو فَمن أَخذه بسخاوة نفس بورك لَهُ فِيهِ، وَمن أَخذه بإشراف نفس لم يُبَارك لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَالَّذي يَأْكُل وَلَا يشْبع ".
أَقُول: الْبركَة فِي الشَّيْء على أَنْوَاع. أدناها طمأنينة النَّفس بِهِ وثلج الصَّدْر كرجلين عِنْدهمَا عشرُون درهما أَحدهمَا يخْش الْفقر، وَالْآخر مَصْرُوف الخاطر عَن الخشية غلب