أَقُول: لما كَانَ سَبَب الأموت سَبَب غيظ الْأَحْيَاء وتأذيهم وَلَا فَائِدَة فِيهِ، وَإِن كثيرا من النَّاس لَا يعلم حَالهم إِلَّا الله نهى عَنهُ، وَقد بَين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا السَّبَب فِي قصَّة سبّ جاهلي وَغَضب الْعَبَّاس لاجله.
وَهل يمشي أَمَام الْجِنَازَة أَو خلفهَا، وَهل يحملهَا أَرْبَعَة أَو اثْنَان، وَهل يسل من قبل رجلَيْهِ أَو من الْقبْلَة؟ الْمُخْتَار أَن الْكل وَاسع، وَأَنه قد صَحَّ فِي الْكل حَدِيث أَو أثر.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّحْد لنا والشق لغيرنا " أَقُول ذَلِك لِأَن اللَّحْد أقرب من إكرام الْمَيِّت وإهالة التُّرَاب على وَجهه من غير ضَرُورَة سوء أدب.
وَإِنَّمَا بعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليا رَضِي الله عَنهُ أَلا يدع تمثالا إِلَّا طمثه، وَلَا قبرا مشرفا إِلَّا سواهُ، وَنهى أَن يجصص الْقَبْر، وَأَن يبْنى عَلَيْهِ، وَأَن يقْعد عَلَيْهِ، وَقَالَ: " لَا تصلوا إِلَيْهَا لِأَن ذَلِك ذَرِيعَة أَن يتخذها النَّاس معبودا، وَأَن يفرطوا فِي تعظيمها بِمَا لَيْسَ بِحَق، فيحرفوا دينهم كَمَا فعل أهل الْكتاب، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لعن الله الْيَهُود وَالنَّصَارَى اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد وَمعنى أَن يقْعد عَلَيْهِ، قيل: أَن يلازمه المزورون، وَقيل: أَن يطأوا الْقُبُور، وعَلى هَذَا فَالْمَعْنى إكرام الْمَيِّت، فَالْحق التَّوَسُّط بَين التَّعْظِيم الَّذِي يُقَارب الشّرك، وَبَين الإهانة وَترك الْمُوَالَاة بِهِ.
وَلما كَانَ البكا على الْمَيِّت والحزن عَلَيْهِ طبيعة لَا يَسْتَطِيعُونَ أَن ينفكوا عَنْهَا لم يجز أَن يكلفوا بِتَرْكِهِ كَيفَ وَهُوَ ناشيء من رقة الجنسية وَهِي محمودة لتوقف تألف أهل الْمَدِينَة فِيمَا بَينهم عَلَيْهَا، وَلِأَنَّهَا مُقْتَضى سَلامَة مزاج الْإِنْسَان، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا يرحم الله من عباده الرُّحَمَاء ".
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنا الله لَا يعذب بدمع الْعين وَلَا بحزن الْقلب، وَلَكِن يعذب بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانه - أَو يرحم "، قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسَ منا من ضرب الخدود، وشق الْجُيُوب، ودعا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة " السِّرّ فِيهِ أَن ذَلِك سَبَب تهيج الْغم، وَإِنَّمَا الْمُصَاب بالثكل بِمَنْزِلَة الْمَرِيض يعالج ليخفف مَرضه، وَلَا يَنْبَغِي أَن يسْعَى فِي تضَاعف وَجَعه، وَكَذَلِكَ الْمُصَاب يشغل عَمَّا يجده، وَلَا يَنْبَغِي أَن يغوص بِقَصْدِهِ، وَأَيْضًا فَلَعَلَّ هيجان القلق يكون سَببا لعدم الرِّضَا بِالْقضَاءِ، وَأَيْضًا فَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يراءون النَّاس بِإِظْهَار التفجع وَتلك عَادَة خبيثة ضارة، فنهوا عَنْهَا.