لما كَانَ من الرَّحْمَة المرعية فِي الشَّرَائِع - أَن يبين لَهُم مَا لَا بُد مِنْهُ، وَمَا يحصل بِهِ فَائِدَة الطَّاعَة كَامِلَة، ليَأْخُذ كل إِنْسَان حَظه، ويتمسك المشغول والمقبل على الارتفاقات بِمَا لَا بُد مِنْهُ، وَيُؤَدِّي الفارغ الْمقبل على تَهْذِيب نَفسه وَإِصْلَاح آخرته الْكَامِل - تَوَجَّهت الْعِنَايَة التشريعية إِلَى بَيَان صلوَات يتنفلون بهَا، وتوقيتها بِأَسْبَاب وأوقات تلِيق بهَا، وَأَن يحث عَلَيْهَا، ويرغب فِيهَا، ويفصح عَن فوائدها، وَإِلَى ترغيبهم فِي الصَّلَاة النَّافِلَة غير المؤقتة إِجْمَالا إِلَّا عِنْد مَانع كالأوقات المنهية.
فَمِنْهَا رواتب الْفَرَائِض، وَالْأَصْل فِيهَا أَن الأشغال الدُّنْيَوِيَّة لما كَانَت منسية ذكر الله صادة عَن تدبر الْأَذْكَار وَتَحْصِيل ثَمَرَة الطَّاعَات فَإِنَّهَا تورث إخلادا إِلَى الْهَيْئَة البهيمية وقسوة ودهشا للملكية - وَجب أَن يشرع لَهُم مصقلة يستعملونها قبل الْفَرَائِض؛ ليَكُون الدُّخُول فِيهَا على حِين صفاء الْقلب وَجمع الهمة، وَكَثِيرًا مَا لَا يُصَلِّي الْإِنْسَان بِحَيْثُ يَسْتَوْفِي فَائِدَة الصَّلَاة، وَهُوَ الْمشَار إِلَيْهِ فِي قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كم من مصل لَيْسَ لَهُ من صلَاته إِلَّا نصفهَا ثلثهَا ربعهَا " فَوَجَبَ أَن يسن بعْدهَا صَلَاة تَكْمِلَة للمقصود
وآكدها عشر رَكْعَات، أَو اثْنَتَا عشرَة رَكْعَة متوزعة على الْأَوْقَات وَذَلِكَ أَنه أَرَادَ أَن يزِيد بِعَدَد الرَّكْعَات الْأَصْلِيَّة، وَهِي إِحْدَى عشرَة لَكِنَّهَا أشفاع، فَاخْتَارَ أحد العددين.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بنى لَهُ بَيت فِي الْجنَّة " أَقُول هَذَا إِشَارَة إِلَى أَنه مكن من نَفسه لحظ عَظِيم من الرَّحْمَة
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَكعَتَا الْفجْر خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا " أَقُول: إِنَّمَا كَانَتَا خيرا مِنْهَا لِأَن الدُّنْيَا فانية، وَنَعِيمهَا لَا يَخْلُو عَن كدر النصب والتعب، وثوابها بَاقٍ غير كدر
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من صلى الْفجْر فِي جمَاعَة، ثمَّ قعد يذكر الله حَتَّى تطلع الشَّمْس، ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ كَانَت لَهُ كَأَجر حجَّة وَعمرَة " أَقُول: هَذَا هُوَ الِاعْتِكَاف الَّذِي سنه رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل يَوْم، وَقد مر فَوَائِد الِاعْتِكَاف