لِمَا ذُكِرَ مِنْ نَسْخِ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ وَوُجُوبِ الْمَعْرِفَةِ
(وَالْمُخْتَارُ أَنَّ النَّاسِخَ قَبْلَ تَبْلِيغِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأُمَّةَ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ) لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِهِ (وَقِيلَ يَثْبُتُ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ فِي الذِّمَّةِ لَا) بِمَعْنَى (الِامْتِثَالِ) كَالنَّائِمِ وَقْتَ الصَّلَاةِ وَبَعْدَ التَّبْلِيغِ يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ بَلَغَهُ وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ مِمَّنْ تَمَكَّنَ مِنْ عِلْمِهِ فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ فَعَلَى الْخِلَافِ (أَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ) كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ أَوْ رُكُوعٍ أَوْ صِفَةٍ فِي رَقَبَةِ الْكَفَّارَةِ كَالْإِيمَانِ أَوْ جَلْدَاتٍ فِي جَلْدِ حَدٍّ فَلَيْسَتْ بِنَسْخٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ: لِمَا ذُكِرَ) مُتَعَلِّقٌ بِالْوُقُوعِ فَلَامُهُ مُقَوِّيَةٌ لَا تَعْلِيلِيَّةٌ.
(قَوْلُهُ: قَبْلَ تَبْلِيغِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ لِلنَّاسِخِ وَبَعْدَ بُلُوغِهِ لِجِبْرِيلَ فَيَصْدُقُ ذَلِكَ بِمَا قَبْلَ بُلُوغِ النَّاسِخِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِمَا بَعْدَ بُلُوغِهِ لَهُ وَقَبْلَ نُزُولِهِ إلَى الْأَرْضِ كَمَا فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ مِنْ رَفْعِ فَرْضِيَّةِ خَمْسِينَ صَلَاةً بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ، وَبِمَا بَعْدَ نُزُولِهِ إلَى الْأَرْضِ، وَقَبْلَ تَبْلِيغِهِ لِلْأُمَّةِ فَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي الْجَمِيعِ وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْخَمْسَ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ نَاسِخَةٌ لِلْخَمْسِينَ هُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَسْخٌ فِي حَقِّ النَّبِيِّ لِبُلُوغِهِ لَهُ، وَكَلَامُنَا فِي النَّسْخِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ اهـ. زَكَرِيَّا.
وَفِي سم حِكَايَةُ قَوْلٍ بِأَنَّهُ نَسْخٌ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ حُكْمُ الْمَنْسُوخِ ثُمَّ قَالَ: وَمَا ذَكَرَهُ كَغَيْرِهِ مِنْ نَسْخِ الْخَمْسِينَ إلَى الْخَمْسِ يُحْتَمَلُ، وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ رَفْعَ التَّعَلُّقِ بِالْجُمْلَةِ مَعَ إثْبَاتِ التَّعَلُّقِ بِبَعْضِهَا فَيَكُونُ الْمَنْسُوخُ فِي الْحَقِيقَةِ مَا عَدَا الْخَمْسَ مِنْ الْخَمْسِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ رَفْعَ التَّعَلُّقِ بِجَمِيعِ الْخَمْسِينَ، وَإِثْبَاتَ تَعَلُّقٍ جَدِيدٍ بِالْخَمْسِ (قَوْلُهُ: وَقِيلَ يَثْبُتُ إلَخْ) يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَثْنِيَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَا قَبْلَ بُلُوغِ النَّاسِخِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ صَحَّ إرَادَةُ هَذَا عَلَى الْمُخْتَارِ؛ إذْ لَا يَسَعُ الْقَوْلُ بِالِاسْتِقْرَارِ فِي الذِّمَّةِ حِينَئِذٍ اهـ. سم.
(قَوْلُهُ: بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ) أَيْ تَقْرِيرِ الْمَطْلُوبِ وَثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ فَيَجِبُ الْقَضَاءُ (قَوْلُهُ: كَمَا فِي النَّائِمِ) فِيهِ أَنَّ النَّائِمَ لَمْ يَسْتَقِرَّ فِي نَعْتِهِ حُكْمٌ، وَإِنَّمَا الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ (قَوْلُهُ: فَعَلَى الْخِلَافِ) أَيْ السَّابِقِ فِيمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ (قَوْلُهُ: أَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ إلَخْ) قَالَ فِي التَّلْوِيحِ: الزِّيَادَةُ إنْ كَانَتْ عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً كَزِيَادَةِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ مَثَلًا فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّهَا لَا تَكُونُ نَسْخًا، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي غَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ وَمَثَّلُوا لَهُ بِزِيَادَةِ جُزْءٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ زِيَادَةِ مَا يَرْفَعُ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى سِتَّةِ مَذَاهِبَ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نَسْخٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْعُلَمَاءُ الْحَنَفِيَّةُ
الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ
الثَّالِثُ: إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ تَرْفَعُ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ فَنَسْخٌ وَإِلَّا لَا
الرَّابِعُ: إنْ غَيَّرَتْ الزِّيَادَةُ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ صَارَ وُجُودُهُ كَالْعَدَمِ شَرْعًا فَنَسْخٌ وَإِلَّا فَلَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ وَالْمُعْتَزِلَةُ
الْخَامِسُ: إنْ اتَّحَدَتْ الزِّيَادَةُ مَعَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَرْتَفِعُ التَّعَدُّدُ وَالِانْفِصَالُ بَيْنَهُمَا فَنَسْخٌ وَإِلَّا فَلَا
السَّادِسُ: أَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ رَفَعَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَنَسْخٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُمْ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ إنَّمَا ذُكِرَ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ وَالتَّأْكِيدِ سَوَاءٌ تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: رَفَعْت أَوْ ثُبُوتِهِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ الْوَاقِعَةَ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَا تَكُونُ إلَّا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَكَذَا ثُبُوتُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا يَصْلُحُ نَاسِخًا هَذَا تَفْصِيلُ الْمَذَاهِبِ عَلَى مَا فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ اهـ.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: إنَّ زِيَادَةَ عِبَادَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مُجَانِسَةً كَصَلَاةٍ سَادِسَةٍ أَوْ غَيْرَ مُجَانِسَةٍ كَزِيَادَةِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّلَاةِ فَلَيْسَتْ نَسْخًا فِي الثَّانِيَةِ إجْمَاعًا، وَلَا فِي الْأُولَى عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: هِيَ نَسْخٌ؛ لِأَنَّهَا تُغَيِّرُ الْوَسَطَ فَتُغَيِّرُ الصَّلَاةَ الْمَأْمُورَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فِي أَنَّهُ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوُسْطَى فِي الْآيَةِ لَيْسَتْ مِنْ الْوَسَطِ فِي الْعَدَدِ بَلْ هِيَ عَلَمٌ عَلَى صَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ مِنْ الْوَسَطِ بِمَعْنَى الْخِيَارِ، وَالْفَاضِلُ لَا يَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ صَلَاةٍ، وَهَذَا الْجَوَابُ إنَّمَا يَصْلُحُ جَوَابًا عَنْ دَلِيلِ الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ لَا عَنْ مُدَّعِي الْخَصْمِ عَلَى مَا أَفْهَمَهُ