إلَى مَجِيءِ شَرِيعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا كُلُّ مَنْسُوخٍ فِيهَا مُغَيًّا عِنْدَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى وُرُودِ نَاسِخِهِ كَالْمُغَيَّا فِي اللَّفْظِ فَنَشَأَ مِنْ هُنَا تَسْمِيَةُ النَّسْخِ تَخْصِيصًا وَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ فِي وُجُودِهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
(وَالْمُخْتَارُ أَنَّ نَسْخَ حُكْمِ الْأَصْلِ لَا يَبْقَى مَعَهُ حُكْمُ الْفَرْعِ) لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا بِانْتِفَاءِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: يَبْقَى؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مُظْهِرٌ لَهُ لَا مُثْبِتٌ وَسُلِّمَ فِي قَوْلِهِ لَا يَبْقَى مِنْ التَّسَمُّحِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ نَسْخٌ لِحُكْمِ الْفَرْعِ.
(وَ) الْمُخْتَارُ (أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ يَقْبَلُ النَّسْخَ) فَيَجُوزُ نَسْخُ كُلِّ الْأَحْكَامِ وَبَعْضِهَا أَيَّ بَعْضٍ كَانَ (وَمَنَعَ الْغَزَالِيُّ) كَالْمُعْتَزِلَةِ (نَسْخَ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ) لِتَوَقُّفِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ الْمَقْصُودِ مِنْهُ بِتَقْدِيرِ وُقُوعِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ النَّسْخِ وَالنَّاسِخِ وَهِيَ مِنْ التَّكْلِيفِ وَلَا يَتَأَتَّى نَسْخُهَا قُلْنَا مُسَلَّمٌ ذَلِكَ لَكِنْ بِحُصُولِهَا يَنْتَهِي التَّكْلِيفُ بِهَا فَيَصْدُقُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ تَكْلِيفٌ وَهُوَ الْقَصْدُ بِنَسْخِ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ فَلَا نِزَاعَ فِي الْمَعْنَى (وَ) مَنَعَتْ (الْمُعْتَزِلَةُ نَسْخَ وُجُوبِ الْمَعْرِفَةِ) أَيْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ حَسَنَةٌ لِذَاتِهَا لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ فَلَا يَقْبَلُ حُكْمُهُمَا النَّسْخَ قُلْنَا الْحَسَنُ الذَّاتِيُّ بَاطِلٌ (وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَهُ وَأَفَادَ بِهَذَا أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَنَا فَإِنْ قُلْت التَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: عِنْدَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُغَيَّا عِنْدَ غَيْرِهِ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَ مَا ذُكِرَ مُغَيَّا فِي عِلْمِ اللَّهِ إلَى مَا ذُكِرَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي الِاخْتِلَافُ فِيهِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالنَّظَرِ لِقَوْلِهِ كَالْمُغَيَّا فِي اللَّفْظِ فَاَلَّذِي يَخُصُّهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْمُغَيَّا فِي الْعِلْمِ كَالْمُغَيَّا فِي اللَّفْظِ حَتَّى جَعَلَهُمَا تَخْصِيصًا (قَوْلُهُ: كَالْمُغَيَّا فِي اللَّفْظِ) أَيْ وَهُوَ يُسَمَّى تَخْصِيصًا فَانْفَصَلَ عَنْ غَيْرِهِ بِهَذَا الْقِيَاسِ (قَوْلُهُ: فَنَشَأَ مِنْ هُنَا) أَيْ مِنْ قَوْلِهِ: كَالْمُغَيَّا إلَخْ.
(قَوْلُهُ: لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ) أَيْ اعْتِبَارِهَا فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً (قَوْلُهُ: لَا يَبْقَى إلَخْ) يُشْكِلُ عَلَيْهِ جَوَازُ نَسْخِ الْأَصْلِ دُونَ الْفَحْوَى كَمَا تَقَدَّمَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا قِيَاسِيَّةٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْفَحْوَى أَقْوَى مِنْ ثُبُوتِهِ هُنَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ قِيلَ: إنَّهُ مَنْطُوقٌ (قَوْلُهُ: الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا) أَيْ يَثْبُتُ حُكْمُ الْفَرْعِ (قَوْلُهُ: لَا مُثْبِتَ) فَلَا لَزِمَ مِنْ انْتِفَائِهِ حُكْمُ الْفَرْعِ (قَوْلُهُ: وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ) أَيْ تَبَعًا لِابْنِ الْحَاجِبِ وَالْآمِدِيِّ (قَوْلُهُ: مِنْ التَّسَمُّحِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ) لِإِيهَامِهِ أَنَّ النَّسْخَ وَرَدَ عَلَى الْفَرْعِ مَعَ أَنَّهُ إنَّمَا وَرَدَ عَلَى الْأَصْلِ وَقَدْ يُقَالُ هُوَ وَارِدٌ عَلَى الْفَرْعِ بِالتَّبَعِ أَيْضًا.
(قَوْلُهُ: فَيَجُوزُ نَسْخُ كُلِّ الْأَحْكَامِ) أَيْ وَتَبْقَى الْأَشْيَاءُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ (قَوْلُهُ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ النَّسْخِ صِفَةً لِلْعِلْمِ؛ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ نَسْخِ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ أَنْ يَعْلَمَ اهـ. زَكَرِيَّا.
(قَوْلُهُ: وَهِيَ) أَيْ مَعْرِفَةُ النَّسْخِ وَالنَّاسِخِ (قَوْلُهُ: مِنْ التَّكَالِيفِ) أَيْ مِنْ الْأُمُورِ الْمُكَلَّفِ بِهَا لِتَوَقُّفِ الْعِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِهِ عَلَيْهَا وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ (قَوْلُهُ: وَيَتَأَتَّى نَسْخُهَا إلَخْ) وَإِلَّا ضَاعَتْ الثَّمَرَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ النَّسْخِ وَهُوَ الْعِلْمُ (قَوْلُهُ: مُسَلَّمٌ ذَلِكَ) أَيْ أَنَّ الْعِلْمَ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي النَّسْخِ (قَوْلُهُ: بِحُصُولِهَا) أَيْ الْمَعْرِفَةِ التَّكْلِيفِيَّةِ (قَوْلُهُ: يَنْتَهِي التَّكْلِيفُ بِهَا) ؛ لِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ لَمْ تُقَيَّدْ بِدَوَامٍ فَيَصْدُقُ بِوُقُوعِهَا مَرَّةً ثُمَّ إنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ نَسْخَ الْجَمِيعِ بِخِطَابٍ حَتَّى يَلْزَمَ الدَّوْرُ أَوْ التَّسَلْسُلُ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ مِنْ التَّكَالِيفِ فَيَحْتَاجُ نَسْخُهُ لِخِطَابٍ، وَهَكَذَا (قَوْلُهُ: وَهُوَ الْقَصْدُ بِنَسْخِ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ) أَيْ فَفِي دَعْوَى نَسْخِ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ تَغَلُّبٌ فَإِنَّ بَعْضَهَا نُسِخَ وَبَعْضُهَا لَمْ يَبْقَ التَّكْلِيفُ بِهِ فَيُسَمَّى الْكُلُّ نَسْخًا تَغْلِيبًا فَلَا نِزَاعَ فِي الْمَعْنَى فَإِنَّ الْقَائِلَ نَسَخَ جَمِيعَ التَّكَالِيفِ مُرَادُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ لَا يَبْقَى تَكْلِيفٌ مِنْ التَّكَالِيفِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا عَدَا الْمَعْرِفَتَيْنِ بِطَرِيقِ النَّسْخِ، وَفِيهِمَا بِطَرِيقِ الِانْتِهَاءِ وَالِانْقِطَاعِ، وَمُرَادُ الْقَائِلِ بِعَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَقْلًا ارْتِفَاعُهَا كُلُّهَا بِطَرِيقِ النَّسْخِ، وَإِنْ جَازَ انْقِطَاعُ التَّكْلِيفِ فِي الْبَعْضِ بِانْتِهَائِهِ وَانْقِضَائِهِ اهـ. نَجَّارٌ.
(قَوْلُهُ: أَيْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى) أَيْ الْعِلْمِ بِوُجُودِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَجَمِيعِ مَا يَجِبُ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ (قَوْلُهُ: الْحُسْنُ الذَّاتِيُّ بَاطِلٌ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ