مبينة أن الله عالم بهم متضمنة لو عدهم بمتابعة أوامره ووعيدهم على مخالفته، والخيانة ضد الأمانة ولما كانت خيانة النفس غير متصورة جعلها مجازاً عن الظلم وتنقيص الثوأب، وقال الراغب: الاختيان مراودة الخيانة ولم يقل تخونوا أنفسكم لأنه لم يكن منهم الخيانة بل الاختيان فإنّ الاختيان تحزك شهوة الإنسان لتحرّي الخيانة وذلك هو المشار إليه بقوله: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [سورة يوسف، الآية: 53] وفسر عفا عنكم بمحا أثره أي أحله بعدما حرم لأنه أنسب والتحريم الأوّل كان بالحديبية وهذه الآية نسخته والإلزاق والإلصاق بمعنى وهو المماسة.
قوله: (فالآن باشروهن لما نسخ الخ (أشار به إلى أنه متفزع على أحل لكم الخ، وأنّ
الأمر للإباحة لأنه بعد التحريم وهو توطئة لما بعده، وقوله: من الولد إشارة إلى أن المقصود من الجماع التناسل لإقضاء الوطر والنهي عن العزل بالنسبة إلى الحرائر وعلى الوجه الأخير
472 سورة البقرة / الآية: 87 1 بالقرآن والمباشرة إلزاق البشرة بالبشرة كنى به عن الجماع {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} واطلبوا ما قدره لكم وأثبته في اللوج المحفوظ من الولد والمعنى انّ المباشر ينبغي أن يكون غرضه الولد فإنه الحكمة من خلق الشهوة وشرع النكاح لإقضاء الوطر وقيل النهي عن العزل وقيل عن غير المأتي والتقدير وابتغوا المحل الذي كتب الله لكم {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} شبه أوّل ما يبدو من الفجر المعترض! في الأفق
باعتباره عن المحل وهو ظاهر. قوله:) شبه أوّل ما يبدو من الفجر) في الكشاف فإن قلت: أهذا من باب الاستعارة أم من باب التشبيه، قلت قوله من الفجر أخرجه من باب الاستعارة كما أن قولك رأيت أسداً مجاز فإذا زدت من فلان رجع تشبيها، وأورد عليه بعض فضلاء العصر تبعا لابن القاري وغيره اعتراضأ فقال لو كان الفجر بيانا للمراد من الخيط الأبيض لكان مستعملا في غير ما وضع له وهو ينحصر في المجاز والكناية وليس كناية ولا مجازا مرسلاً لأنه المراد به التشبيه فتعين أن يكون استعارة إلا أن يكون بياناً لمقدر أي حتى يتبين لكم شبه الخيط الأبيض لكم نظم الآية لا يحتاج إلى تقدير وارتكاب حذف لا سيما والمجاز أبلغ وأطال فيه واذعى أنه تحقيق دقيق وهذا غفلة منهم عن كونه بيانا غير حقيقيّ على سبيل التجريد كما مرّ نعم البيان اللفظ إذا كان بغير معناه الحقيقيّ ولم يقصد به التجريد لزم أن يكون استعارة ولذا قال العلامة في سورة النحل في تفسير قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} [سورة النحل، الآية: 2] الروج استعارة للوحي الذي هو سبب الهداية الأبدية ومن أمره بيان له وفي بعض شروحه شبه الروح بالوحي لإحيائه ميت الجهل ثم أقيم المشبه به مقامه فصار استعارة تحقيقية مصرحة والقرينة الصارفة عن إرادة الحقيقة إبدال أن أنذروا من الروج، وقيل: من أمره يخرج الاستعارة إلى التشبيه كما في هذه الآية (قلت) بينهما بون بعيد لأنّ نفس الفجر عين المشبه الذي شبه بالخيطين وليس مطلق الأمر ههنا شبيها بالروج حتى يكون بيانا له لأنه أمر عام بمعنى الشأن والحال ولهذا يصح أن يفسر الروج الحيواني. به كقوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [سورة الإسراء، الآية: 85] أي من شأنه ومما استأثر بعلمه وأن يفسر به الروح المراد منه الوحي أي من شأنه ومما أنزله على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، نعم هو مجاز أيضاً لأنّ الأمر العام إذا أطلق علي فرد من أفراده كان مجازآ انتهى والى هذا أشار في الكشف بقوله: ليس وزان من أمره وزان من الفجر فمن ظن أن البيان مطلقا ينافي الاستعارة كما توهمه عبارة المطوّل فقد وهم وأما قول المرزوقي في شرح الفصيح الخيط واحد الخيوط استعمل فيما هو كالسطر الممتد مجازاً تشبيهأ بامتداد الخيط في قوله تعالى الخيط الأبيض فمن تسمح أهل اللغة في استعمال المجاز في أمثاله، وقوله: المعترض! احتراز عن المستطيل وهو الفجر الكاذب فإنه ليس منتهى الليل، والغبش بالتحريك بقية الليل ويقال ظلمة آخر الليل والجمع أغباش. قوله: (واكتفى ببيان الخيط الأبيض الخ (يريد أن بيانه وهو الغبش كأنه ذكر معه فيخرج إلى التشبيه كالخيط الأبيض وهذا مختار السكاكي ومنهم من جعل الخيط الأسود استعارة لأنه لم يبين لا
يقال ففي كلا ستعارة دلالة على حذف المشبه لأنا نقول لا بل فيها دلالة على أن المراد هو المشبه وفرق بين هذا وبين الدلالة على أنّ في الكلام محذوفا ومقدراً هو اسم المشبه سواء كان جزءاً من الكلام يتوقف صحة التركيب عليه أولاً، وقوله: وبذلك خرجا الخ لأنه من باب التجريد وهو من التشبيه البليغ كما مرّ. قوله: (ويجوز أن تكون من للتبعيض الخ) في الكشاف من الفجر بيان للخيط الأبيض واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لأنّ بيان أحدهما بيان للثاني، ويجوز أن تكون من للتبعيض لأنه بعض الفجر وأوّله وفي الكشف لما مرّ من أنّ الخيط الأسود ما يمتد معه من الغبش فقد حصل بيان الثاني تبعا لأنّ الغبش لا ينفك عنه، ويجوز أن تكون من للتبعيض لأنه بعض الفجر وأوله لأنّ ما يبدو أولاً الخيط الأبيض