كِتَابُ الصِّيَامِ (يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِإِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ) يَوْمًا (أَوْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ) لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَلَا بُدَّ فِي الْوُجُوبِ عَلَى مَنْ لَمْ يَرَهُ مِنْ ثُبُوتِ رُؤْيَتِهِ عِنْدَ الْقَاضِي (وَثُبُوتُ رُؤْيَتِهِ) تَحْصُلُ (بِعَدْلٍ) قَالَ «ابْنُ عُمَرَ: أَخْبَرْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنِّي رَأَيْت الْهِلَالَ فَصَامَ وَأَمَرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــSكِتَابُ الصِّيَامِ
اخْتَارَهُ عَلَى الصَّوْمِ الْمُجَرَّدِ لِإِفَادَةِ الزِّيَادَةِ الْقَلِيلَةِ التَّغْيِيرِ لِلْيَاءِ وَهُوَ لُغَةً الْإِمْسَاكُ وَلَوْ عَنْ نَحْوِ الْكَلَامِ وَمِنْهُ: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] أَيْ سُكُوتًا. وَشَرْعًا إمْسَاكٌ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ جَمِيعَ النَّهَارِ. وَفُرِضَ فِي شَعْبَانَ السَّنَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ الْهِجْرَةِ. وَشَهْرُهُ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَهُوَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِخِلَافِ مُطْلَقِ الصَّوْمِ. وَقِيلَ: إنَّهُ الْمَفْرُوضُ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ إلَّا أَنَّ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَضَلَّتْهُ فَالْخُصُوصِيَّةُ فِي تَعْيِينِهِ. قَوْلُهُ: (رَمَضَانَ) مِنْ الرَّمَضِ وَهُوَ شِدَّةُ الْحَرِّ لِوُجُودِهِ عِنْدَ وَضْعِ اسْمِهِ مِنْ الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ وَضَعُوا اللُّغَةَ، وَقَدْ سَمَّوْا كُلَّ شَهْرٍ بِصِفَةٍ مِمَّا فِي زَمَنِهِ حَالَ وَضْعِهِ كَمْ سَمَّوْا الرَّبِيعَيْنِ لِوُجُودِ زَمَنِ الرَّبِيعِ عِنْدَهُمَا. وَعُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي ذِكْرِهِ بِدُونِ لَفْظِ شَهْرِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ لِمَا قِيلَ إنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَثْبُتْ كَمَا أَنْكَرَهُ النَّوَوِيُّ. قَوْلُهُ: (بِإِكْمَالِ) عِبَارَةُ الْمَنْهَجِ بِكَمَالِ وَهِيَ الْأَنْسَبُ اخْتِصَارًا وَمَعْنًى إلَّا أَنْ يُفَسَّرَ الْإِكْمَالُ بِالْحِسَابِ. قَوْلُهُ: (شَعْبَانَ) جَمْعُهُ شَعْبَانَاتٌ يُقَالُ شَعَّبْت الشَّيْءَ جَمَعْته وَشَعَّبْته أَيْضًا فَرَّقْته فَهُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ وَالْعَرَبُ كَانَتْ تَجْتَمِعُ فِيهِ لِلْقِتَالِ بَعْدَ رَجَبٍ وَتُفَرِّقُ فِيهِ النَّهْبَ وَالْأَمْوَالَ وَتَتَفَرَّقُ فِيهِ لِأَخْذِ الثَّأْرِ.
قَوْلُهُ: (ثَلَاثِينَ) وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَجِبُ الصَّوْمُ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ عِنْدَ الْغَيْمِ. قَوْلُهُ: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ إلَخْ) فِيهِ أُمُورٌ يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ بِحَسَبِ ذَاتِهِ أَحَدُهَا: أَنَّهُ إنْ حُمِلَ ضَمِيرُ صُومُوا وَرُؤْيَتِهِ عَلَى الْكُلِّيَّةِ فِيهِمَا كَانَ الْمَعْنَى يَصُومُ كُلُّ وَاحِدٍ إذَا رَأَى دُونَ غَيْرِهِ أَوْ حُمِلَ عَلَيْهَا فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، كَانَ الْمَعْنَى يَصُومُ كُلُّ وَاحِدٍ لِرُؤْيَةِ وَاحِدٍ أَوْ عَكْسُهُ. كَانَ الْمَعْنَى يَصُومُ وَاحِدٌ لِرُؤْيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ ثَانِيهَا: أَنَّهُ إنْ حُمِلَتْ الرُّؤْيَةُ عَلَى مَا هُوَ بِالْبَصَرِ كَانَ الْمَعْنَى مِنْ أَبْصَرَهُ يَصُومُ دُونَ غَيْرِهِ كَالْأَعْمَى. ثَالِثُهَا: أَنَّهُ إنْ حُمِلَتْ الرُّؤْيَةُ عَلَى الْعِلْمِ دَخَلَ التَّوَاتُرُ وَخَرَجَ خَبَرُ الْعَدْلِ رَابِعُهَا: أَنَّهُ إنْ حُمِلَتْ عَلَى مَا يَشْمَلُ الظَّنَّ دَخَلَ خَبَرُ الْمُنَجِّمِ، خَامِسُهَا: أَنَّهُ إنْ حُمِلَتْ عَلَى إمْكَانِهَا دَخَلَ طَلَبُ الصَّوْمِ إذَا غُمَّ وَكَانَ بِحَيْثُ يُرَى. سَادِسُهَا: أَنَّهُ إنْ حُمِلَتْ عَلَى وُجُودِهِ لَزِمَ طَلَبُ الصَّوْمِ وَإِنْ لَمْ تُمْكِنْ رُؤْيَتُهُ بِأَنْ أَخْبَرَ الْمُنَجِّمُ أَنَّ لَهُ قَوْسًا لَا يُرَى. سَابِعُهَا: أَنَّهُ إنْ جُعِلَ ضَمِيرُ صُومُوا لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ وَرُؤْيَتِهِ لِبَعْضِهِمْ لَزِمَ صَوْمُ كُلِّهِمْ لِرُؤْيَةِ بَعْضِهِمْ وَلَوْ وَاحِدًا عَلَى نَظِيرِ مَا مَرَّ. ثَامِنُهَا: أَنَّ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ تَأْتِي فِي الْفِطْرِ بِقَوْلِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ.
تَاسِعُهَا: أَنَّ ضَمِيرَ رُؤْيَتِهِ عَائِدٌ لِهِلَالِ رَمَضَانَ فِيهِمَا وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الثَّانِي. عَاشِرُهَا: أَنَّ مَعْنَى غُمَّ اسْتَتَرَ بِالْغَمَامِ فَيَخْرُجُ مَا لَوْ اسْتَتَرَ بِغَيْرِهِ وَيَأْتِي فِي ضَمِيرِ عَلَيْكُمْ مَا فِي ضَمِيرِ صُومُوا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ فَرَاجِعْ وَانْظُرْ مَا الْمُرَادُ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا وَالْوَجْهُ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ أَنْ تُحْمَلَ الرُّؤْيَةُ عَلَى إمْكَانِهَا فِي الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ، وَمَا فِي شَرْحِ شَيْخِنَا وَغَيْرِهِ مِمَّا يُفْهِمُ خِلَافَ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ فَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ، تَأَمَّلْ. قَوْلُهُ: (فَأَكْمِلُوا إلَخْ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ لَوْ تَبَيَّنَ الْحَالُ بِأَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي غُمَّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ وَلَيْسَ مُرَادًا. قَوْلُهُ: (عِنْدَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ [كِتَابُ الصِّيَامِ]
قَوْلُ الْمَتْنِ: (بِإِكْمَالِ شَعْبَانَ إلَخْ) أَفْهَمَ الِاقْتِصَارُ عَلَى هَذَيْنِ عَدَمَ الْوُجُوبِ بِغَيْرِهِمَا، كَإِخْبَارِ الْمُنَجِّمِ وَالْحَاسِبِ بَلْ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمَا اعْتِمَادُهُمَا، وَيَجُوزُ لَهُمَا الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ، وَلَا يُجْزِئُهُمَا عَنْ فَرْضِهِمَا. كَذَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَاسْتَشْكَلَ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ قَوْلُ الْمَتْنِ: (وَثُبُوتِ رُؤْيَتِهِ إلَخْ) بَحَثَ بَعْضُهُمْ عَدَمَ تَأَتِّي الْحُكْمِ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَوَسَّطُ بِمُعَيَّنٍ. قَوْلُهُ: (تَحْصُلُ) أَيْ تَكْفِي