لِحَدِيثِ «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ «فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ» وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» أَيْ يَدْفَعُ النَّجَسَ وَلَا يَقْبَلُهُ. (فَإِنْ غَيَّرَهُ) أَيْ الْمَاءُ الْقُلَّتَيْنِ (فَنَجَسٌ) لِحَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ «الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ» (فَإِنْ زَالَ تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ) أَيْ مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ شَيْءٍ إلَيْهِ كَأَنْ زَالَ بِطُولِ الْمُكْثِ (أَوْ بِمَاءٍ) انْضَمَّ إلَيْهِ (طَهُرَ) كَمَا كَانَ الزَّوَالُ سَبَبَ النَّجَاسَةِ (أَوْ بِمِسْكٍ وَزَعْفَرَانٍ) وَخَلٍّ أَيْ لَمْ تُوجَدْ رَائِحَةُ النَّجَاسَةِ بِالْمِسْكِ، وَلَا لَوْنُهَا بِالزَّعْفَرَانِ، وَلَا طَعْمُهَا بِالْخَلِّ. (فَلَا) يَطْهُرُ لِلشَّكِّ فِي أَنَّ التَّغَيُّرَ زَالَ أَوْ اسْتَتَرَ بَلْ الظَّاهِرُ الِاسْتِتَارُ. (وَكَذَا تُرَابٌ وَجِصٌّ) أَيْ جِبْسٌ (فِي الْأَظْهَرِ) لِلشَّكِّ الْمَذْكُورِ. وَالثَّانِي يَطْهُرُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ فَلَا يَسْتَتِرُ التَّغَيُّرُ وَدُفِعَ أَنَّهُ يُكَدِّرُ الْمَاءَ وَالْكُدُورَةُ مِنْ أَسْبَابِ السِّتْرِ فَإِنْ صَفَا الْمَاءُ
ـــــــــــــــــــــــــــــSمَوْجُودٌ فِيهِمَا قَبْلَ الْجَمْعِ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ الْجَمْعُ عَنْ وَصْفِ النَّجَاسَةِ فَلَأَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ وَصْفِ الِاسْتِعْمَالِ بِالْأَوْلَى لِأَنَّ الِانْتِقَالَ فِي الْمُسْتَعْمَلِ إلَى الطَّهُورِيَّةِ فَقَطْ وَالِانْتِقَالَ فِي الْمُتَنَجِّسِ إلَى الطَّاهِرِيَّةِ وَالطَّهُورِيَّةِ مَعًا فَتَأَمَّلْ، مَعَ أَنَّ وَصْفَ الِاسْتِعْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَزُلْ لَا يَضُرُّ لِأَنَّ شَرْطَ مَنْعِهِ الْقِلَّةَ، وَتَعْبِيرُ الْمَنْهَجِ بِالطَّاهِرِيَّةِ مُرَادُهُ الطَّهُورِيَّةُ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا أَقَلَّ دَرَجَاتِ الطَّهَارَةِ، فَهِيَ كَالْبُرْهَانِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا تُنَجَّسُ قُلَّتَا الْمَاءِ) وَلَوْ احْتِمَالًا، وَالْمُرَادُ الصَّرْفُ يَقِينًا الْخَالِي مِنْ التَّغَيُّرِ السَّالِبِ لِلطَّهُورِيَّةِ، وَإِنْ جُمِعَ مِنْ مُسْتَعْمَلٍ أَوْ نَجَسٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي حُفْرَةٍ، أَوْ حُفَرٍ بِحَيْثُ لَوْ حُرِّكَتْ وَاحِدَةٌ تَحَرُّكًا عَنِيفًا تَحَرَّكَ الْبَقِيَّةُ كَذَلِكَ فَخَرَجَ مَا لَوْ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ بِمَائِعٍ اُسْتُهْلِكَ فِيهِ، فَإِنَّهُ يُنَجَّسُ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ، وَيَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِانْغِمَاسِ الْمُحْدِثِ فِيهِ، وَيَحْتَاجُ فِي الطَّهَارَةِ مِنْهُ إلَى نِيَّةِ الِاغْتِرَافِ، وَإِذَا وَقَعَ فِيهِ طَاهِرٌ قَدَّرَ مُخَالِفًا وَسَطًا، لَكِنْ هَلْ يُفْرَضُ هَذَا الْوَاقِعُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الْمُسْتَهْلَكِ الْأَوَّلِ كُلٌّ مُحْتَمَلٌ، وَالظَّاهِرُ هُنَا الثَّانِي فَرَاجِعْهُ، وَخَرَجَ الْكَثِيرُ الْمُتَغَيِّرُ كَثِيرًا بِمُسْتَغْنًى عَنْهُ غَيْرِ نَحْوِ الْمِلْحِ الْمَائِيِّ، فَإِنَّهُ يُنَجَّسُ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ أَيْضًا، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَوْ زَالَ هَذَا التَّغَيُّرُ أَيْ بِالطَّاهِرِ فِيمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ عَادَ طَهُورًا، فَهُنَا أَوْلَى، وَخَرَجَ مَا لَوْ وَقَعَتْ قُلَّةٌ مِنْ مَائِعٍ فِي قُلَّتَيْنِ مِنْ مَاءٍ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ حِسًّا وَلَا فَرْضًا، ثُمَّ أَخَذَ مِنْهُ قُلَّةً فَلِلْبَاقِي حُكْمُ الْقَلِيلِ عَلَى أَقْرَبِ احْتِمَالَيْنِ، وَدَخَلَ مَا لَوْ شَكَّ فِي كَثْرَتِهِ ابْتِدَاءً أَوْ انْتِهَاءً فَلَهُ حُكْمُ الْكَثِيرِ وَلِلرَّغْوَةِ الْمُرْتَفِعَةِ عَلَى الْمَاءِ عِنْدَ الْبَوْلِ فِيهِ حُكْمُ الطَّهَارَةِ، وَكَذَا لِلْمُتَنَاثِرِ مِنْ الرَّشَّاشِ عِنْدَهُ.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ غَيَّرَهُ) أَيْ النَّجَسُ يَقِينًا وَحْدَهُ، فَإِنْ شَكَّ فِي نَجَاسَةِ الْوَاقِعِ لَمْ يُنَجَّسْ، أَوْ كَانَ مَعَ النَّجَسِ طَاهِرٌ وَتَغَيَّرَ بِهِمَا فُرِضَ النَّجَسُ وَحْدَهُ مُخَالِفًا فَإِنْ غَيَّرَهُ ضَرَّ وَإِلَّا فَلَا، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ جَمِيعُهُ، أَمَّا لَوْ غَيَّرَ بَعْضَهُ فَالْبَاقِي طَهُورٌ إنْ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ، وَلَا يَجِبُ التَّبَاعُدُ عَنْ الْمُتَنَجِّسِ مِنْهُ بِقَدْرِهِمَا عَلَى الْقَدِيمِ الْمُعْتَمَدِ هُنَا. قَوْلُهُ: (فَنَجَسٌ وَإِنْ قَلَّ التَّغَيُّرُ) أَوْ كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ أَوْ تَغَيَّرَ بِمُسْتَغْنًى عَنْهُ أَوْ بِمُجَاوِرٍ. قَوْلُهُ: (فَإِنْ زَالَ) أَيْ ظَاهِرًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّارِحُ بِقَوْلِهِ كَالْمُحَرَّرِ أَيْ لَمْ يُوجَدْ إلَخْ فَلَا يُنَافِي مَا بَعْدَهُ. قَوْلُهُ: (مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ شَيْءٍ إلَيْهِ) وَإِنْ نُقِلَ مِنْ مَحَلٍّ إلَى آخَرَ. قَوْلُهُ: (أَوْ بِمَاءٍ وَلَوْ نَجَسًا) وَإِنْ لَمْ يَخْتَلِطْ صَافٍ بِكَدَرٍ. قَوْلُهُ: (انْضَمَّ إلَيْهِ) أَوْ أَخَذَ مِنْهُ وَالْبَاقِي قُلَّتَانِ. قَوْلُهُ: (كَمَا كَانَ) أَيْ فَالْعَائِدُ الطَّهُورِيَّةُ. قَوْلُهُ: (لِزَوَالِ سَبَبِ النَّجَاسَةِ) وَهُوَ التَّغَيُّرُ الْمَذْكُورُ، وَهَذَا فِي التَّغَيُّرِ الْحِسِّيِّ، وَأَمَّا التَّقْدِيرِيُّ كَمَا لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ نَجَسٌ لَا وَصْفَ لَهُ فَيُقَدِّرُ مُخَالِفًا أَشَدَّ كَلَوْنِ الْحِبْرِ وَطَعْمِ الْخَلِّ وَرِيحِ الْمِسْكِ، فَإِنْ غَيَّرَهُ فَنَجَسٌ، وَيُعْتَبَرُ الْوَصْفُ الْمُوَافِقُ لِلْوَاقِعِ كَمَا يَأْتِي، وَيُعْرَفُ زَوَالُ التَّغَيُّرِ مِنْهُ بِزَوَالِ نَظِيرِهِ مِنْ مَاءٍ آخَرَ أَوْ بِضَمِّ مَاءٍ إلَيْهِ لَوْ ضُمَّ لِلْمُتَغَيِّرِ حِسًّا لَزَالَ أَوْ بِمُضِيِّ زَمَنٍ ذَكَرَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ، أَنَّهُ يَزُولُ بِهِ الْحِسِّيُّ.
قَوْلُهُ: (أَيْ لَمْ تُوجَدْ إلَخْ) يُفِيدُ أَنَّ أَحَدَ الْأَوْصَافِ لَا يَسْتُرُ غَيْرَهُ، فَلَوْ زَالَ الرِّيحُ بِالْخَلِّ أَوْ الزَّعْفَرَانِ طَهُرَ وَكَذَا الْبَقِيَّةُ، وَأَنَّهُ لَا يُفْرَضُ فِي التَّقْدِيرِيِّ إلَّا مَا يُوَافِقُ صِفَةَ الْوَاقِعِ فَقَطْ، وَفَارَقَ الطَّاهِرَ بِغِلَظِ أَمْرِ النَّجَاسَةِ، كَذَا قِيلَ، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ دَقِيقٌ. قَوْلُهُ: (لِلشَّكِّ إلَخْ) .
قَالَ شَيْخُنَا: مَحَلُّ الشَّكِّ إنْ ظَهَرَ رِيحُ الْمِسْكِ مَثَلًا وَإِلَّا بِأَنْ خَفِيَ رِيحُهُ وَرِيحُ النَّجَاسَةِ مَعًا فَإِنَّهُ يَطْهُرُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَكَذَا الْبَقِيَّةُ.
قَالَ: وَمِنْهُ ثَوْبٌ غُسِلَ بِصَابُونٍ وَلَمْ يَظْهَرْ وَصْفُ النَّجَاسَةِ وَلَا الصَّابُونِ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ، فَإِنْ ظَهَرَ وَصْفُ الصَّابُونِ لَمْ يَطْهُرْ وَفِيهِ بَحْثٌ فِي وَصْفِ نَحْوِ اللَّوْنِ فَرَاجِعْهُ. قَوْلُهُ: (لِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ إلَخْ) تَعْلِيلُ الثَّانِي بِذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ يَقُولُ لِأَنَّ التُّرَابَ يَسْتُرُ الْأَوْصَافَ الثَّلَاثَةَ، وَبِهِ صَرَّحَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ رَدًّا عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُوَافِقِ لِلْقَدِيمِ. قَوْلُ الْمَتْنِ: (قُلَّتَا الْمَاءِ) أَيْ الطَّهُورِ، فَلَوْ كَانَ مَسْلُوبَ الطَّهُورِيَّةِ لِتَغَيُّرِهِ بِمُخَالِطٍ طَاهِرٍ تَنَجَّسَ بِالْمُلَاقَاةِ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِمْ، فَلَوْ زَالَ التَّغَيُّرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَالْوَجْهُ عَدَمُ الطَّهُورِيَّةِ، وَمِثْلُ هَذَا لَوْ تَغَيَّرَ الْقَلِيلُ بِمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ ثُمَّ زَالَ التَّغَيُّرُ.
قَوْلُ الْمَتْنِ: (فَإِنْ غَيَّرَهُ فَنَجِسٌ) نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ إطْلَاقُهُ يَشْمَلُ التَّغَيُّرَ بِمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي كَلَامِ الشَّارِحِ. قَوْلُ الشَّارِحِ: (لِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ) أَيْ لَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ صِفَةُ التَّغَيُّرِ الَّتِي