(فَصْلُ: اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ) أَيْ الْكَعْبَةِ (شَرْطٌ لِصَلَاةِ الْقَادِرِ) عَلَيْهِ، فَلَا تَصِحُّ صَلَاةٌ بِدُونِهِ إجْمَاعًا بِخِلَافِ الْعَاجِزِ عَنْهُ كَمَرِيضٍ لَا يَجِدُ مَنْ يُوَجِّهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ، وَمَرْبُوطٍ عَلَى خَشَبَةٍ فَيُصَلِّي عَلَى حَالِهِ وَيُعِيدُ، وَيُعْتَبَرُ الِاسْتِقْبَالُ بِالصَّدْرِ لَا بِالْوَجْهِ أَيْضًا لِأَنَّ الِالْتِفَاتَ بِهِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ كَمَا يُؤْخَذُ مِمَّا سَيَأْتِي مِنْ كَرَاهَتِهِ (إلَّا فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ) أَيْ لَا يُشْتَرَطُ الِاسْتِقْبَالُ فِيهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ لِضَرُورَةٍ وَسَوَاءٌ فِيهِ الْفَرْضُ وَالنَّفَلُ.
(وَ) إلَّا فِي (نَفْلِ السَّفَرِ فَلِلْمُسَافِرِ التَّنَفُّلُ رَاكِبًا وَمَاشِيًا) أَيْ
ـــــــــــــــــــــــــــــS (فَصْلٌ) فِي حُكْمِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ بِالْبَابِ وَهُوَ أَنْسَبُ لَمَّا مَرَّ فِي الْأَذَانِ. قَوْلُهُ: (أَيْ الْكَعْبَةِ) أَيْ عَيْنِهَا يَقِينًا مَعَ الْقُرْبِ وَظَنًّا مَعَ الْبُعْدِ عِنْدَ إمَامِنَا الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَدَلِيلُهُ الشَّطْرُ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُ الْعَيْنُ لُغَةً، وَتَفْسِيرُهُ بِالْجِهَةِ اصْطِلَاحٌ لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ أَصْلَ الْجِهَةِ لُغَةً الْعَيْنُ، لِأَنَّ مَنْ انْحَرَفَ عَنْ مُقَابَلَةِ شَيْءٍ لَا يُقَالُ إنَّهُ مُتَوَجِّهٌ نَحْوَهُ، فَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ أَصْلًا، وَمَنْ جَعَلَ الْجِهَةَ أَعَمَّ مِنْ الْعَيْنِ أَرَادَ الْمَجَازَ وَالْحَقِيقَةَ مَعًا مَعَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَاعْتَبَرَ الْإِمَامُ مَالِكٌ الْجِهَةَ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ اعْتَبَرَ الْعَيْنَ مَعَ الْقُرْبِ وَالْجِهَةَ مَعَ الْبُعْدِ، وَاعْتَبَرَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ جُزْءًا مِنْ قَاعِدَةِ، مُثَلَّثٍ زَاوِيَتُهُ الْعُظْمَى عِنْدَ مُلْتَقَى بَصَرِهِ، وَكَانَتْ الْكَعْبَةُ قِبْلَةَ آبَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَكَانَ يَسْتَقْبِلُهَا، ثُمَّ لَمَّا أُمِرَ بِالتَّوَجُّهِ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سَنَوَاتٍ، كَانَ يَجْعَلُ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَلَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَحُوِّلَتْ الْقِبْلَةُ إلَيْهَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ، بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا فِي رَجَبٍ، فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ بَعْدَ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا، فَاسْتَدَارَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ إلَيْهَا، وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ إنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا لِلْكَعْبَةِ الْعَصْرُ، مَحْمُولٌ عَلَى الْكَامِلَةِ وَسُمِّيَتْ كَعْبَةً لِتَرَبُّعِهَا وَقِبْلَةً لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُقَابِلُهَا بِوَجْهِهِ وَصَدْرِهِ. قَوْلُهُ: (شَرْطٌ) فَلَا يَسْقُطُ بِجَهْلٍ وَلَا غَفْلَةٍ، وَلَا إكْرَاهٍ وَلَا نِسْيَانٍ. نَعَمْ لَوْ اسْتَدْبَرَ نَاسِيًا وَعَادَ عَنْ قُرْبٍ لَمْ يَضُرَّ قَالَهُ شَيْخُنَا الرَّمْلِيُّ. قَوْلُهُ: (الْقَادِرِ) أَيْ حِسًّا بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ مِنْ التَّمْثِيلِ. وَالِاسْتِثْنَاءِ. قَوْلُهُ: (فَلَا تَصِحُّ صَلَاةٌ بِدُونِهِ) أَيْ الِاسْتِقْبَالِ لَا بِقَيْدِ كَوْنِهِ لِلْعَيْنِ بِدَلِيلِ تَذْكِيرِ الضَّمِيرِ، فَالْإِجْمَاعُ فِي مَحَلِّهِ فَتَأَمَّلْ. قَوْلُهُ: (كَمَرِيضٍ) وَمِثْلُهُ مَنْ يَخَافُ نَحْوَ غَرَقٍ بِنَفْسِهِ مَثَلًا، وَكَذَا مَنْ يَخَافُ ضَيَاعَ مَالِهِ أَوْ تَخَلُّفًا عَنْ رُفْقَتِهِ، وَتَلْزَمُهُمْ الْإِعَادَةُ بِخِلَافِ مَا سَيَأْتِي فِيمَنْ خُطِفَ نَعْلُهُ، بِالْفِعْلِ قَالَهُ شَيْخُنَا. قَوْلُهُ: (وَيُعِيدُ) أَيْ لِعَدَمِ اسْتِقْبَالِهِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ الِاسْتِقْبَالَ شَرْطٌ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ أَيْضًا إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لِلْقَادِرِ شَرْطٌ لِلصِّحَّةِ، وَلِلْعَاجِزِ شَرْطٌ لِلْإِجْزَاءِ فَتَأَمَّلْ. قَوْلُهُ: (بِالصَّدْرِ) أَيْ بِجَمِيعِهِ يَقِينًا مَعَ الْقُرْبِ وَظَنًّا مَعَ الْبُعْدِ، فَلَوْ خَرَجَ جُزْءٌ مِنْهُ عَنْ مُحَاذَاةِ الْعَيْنِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِقْبَالِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، الْعُرْفُ لَا الصَّدْرُ، قَالَ الْعَلَّامَةُ الْعَبَّادِيُّ وَمَتَى كَانَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ أَكْثَرُ مِنْ سَمْتِ الْقِبْلَةِ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُمَا. كَمَا قَالَهُ الْفَارِقِيُّ وَهُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، وَلَا يَأْتِي فِيهِ قَوْلُهُمْ الْخَطَأُ غَيْرُ مُحَقَّقٍ، لِأَنَّهُ مَعَ عَدَمِ الرَّابِطَةِ انْتَهَى مَعْنًى، وَهُوَ وَجِيهٌ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ وَاَللَّهُ الْمُعِينُ. نَعَمْ فِي بُطْلَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ نَظَرٌ إذَا ظَنَّ أَنَّهُ مُقَابِلٌ لِلْعَيْنِ فَتَأَمَّلْ.
قَوْلُهُ: (لَا بِالْوَجْهِ أَيْضًا) أَيْ فِي الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ، أَمَّا الْمُضْطَجِعُ وَالْمُسْتَلْقِي، فَيَجِبُ بِالْوَجْهِ مَعَ تَقَدُّمِ الْبَدَنِ فِيهِمَا وَمَعَ رَفْعِ الرَّأْسِ فِي الْمُسْتَلْقِي إنْ تَيَسَّرَ. قَوْلُهُ: (كَمَا يُؤْخَذُ مِمَّا سَيَأْتِي) أَيْ فِي انْحِرَافِ الدَّابَّةِ وَغَيْرِهِ. قَوْلُهُ: (إلَّا فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ) أَيْ وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنْ قِتَالٍ، وَغَيْرِهِ مِمَّا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ.
(فَرْعٌ) لَوْ قَدَرَ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ قَاعِدًا لَا قَائِمًا صَلَّى قَاعِدًا مُسْتَقْبِلًا، لِأَنَّهُ قَدْ عَهِدَ تَرْكَ الْقِيَامِ، كَمَا فِي النَّفْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ دُونَ الِاسْتِقْبَالِ.
قَوْلُهُ: (نَفْلِ السَّفَرِ) أَيُّ نَفْلٍ يَفْعَلُ فِيهِ وَإِنْ فَاتَ حَضَرًا. قَوْلُهُ: (فَلِلْمُسَافِرِ) يُفِيدُ أَنَّهُ مُبَاحٌ، وَإِنَّ الِاسْتِقْبَالَ مُسْتَحَبٌّ، وَالْمُرَادُ مَا دَامَ السَّفَرُ، فَلَوْ تَرَكَهُ أَتَمَّهَا لِلْقِبْلَةِ وُجُوبًا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَطَلَتْ إلَّا إنْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ. قَوْلُهُ: (رَاكِبًا وَمَاشِيًا) وَلَا يَضُرُّهُمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــQ [فَصْلُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ]
فَصْلُ فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ قَوْلُ الْمَتْنِ: (الْقِبْلَةِ) هِيَ فِي اللُّغَةِ الْجِهَةُ. قَوْلُ الشَّارِحِ: (إجْمَاعًا) هُوَ يَدُلُّك عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالْقِبْلَةِ أَعَمَّ مِنْ الْعَيْنِ. قَوْلُ الشَّارِحِ: (لِلضَّرُورَةِ) قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا، قَالَ نَافِعٌ: لَا أَرَى عَبْدَ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَكَرَ ذَلِكَ إلَّا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَوْلُ الْمَتْنِ: (وَإِلَّا فِي نَفْلِ السَّفَرِ) أَيْ حَيْثُ لَمْ يُمْكِنْهُ الِاسْتِقْبَالُ وَإِتْمَامُ الْأَرْكَانِ فِي هَوْدَجٍ وَنَحْوِهِ كَمَا سَيَأْتِي. وَخَرَجَ بِالنَّفْلِ الْجِنَازَةُ فَإِنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالْفَرَائِضِ لِأَنَّ تَجْوِيزَهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ يُؤَدِّي إلَى مَحْوِ صُورَتِهَا.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَقَضِيَّةُ الْعِلَّةِ جَوَازُهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ قَائِمًا، إذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ، يَعْنِي فِي حَالِ مَشْيِهَا، وَاسْتَظْهَرَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَقَالَ: قِيَاسُهُ صِحَّتُهَا مَاشِيًا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْغَائِبِ وَغَيْرِهِ، لَكِنَّهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ قَدْ صَرَّحَ بِامْتِنَاعِ الْمَشْيِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَجَوَّزَ الْإِصْطَخْرِيُّ فِعْلَ النَّافِلَةِ لِلْحَاضِرِ الْمُتَرَدِّدِ فِي حَوَائِجِهِ. قَوْلُ الْمَتْنِ: (لِلْمُسَافِرِ) ظَاهِرُهُ