كَصُحُفِ شِيثٍ، وَإِدْرِيسَ، وَإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهَا قَبْلُ؛ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ لَمْ يَنْزِلْ بِنَظْمٍ يُدَرَّسُ، وَيُتْلَى، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إلَيْهِمْ مُعَايَنَةً، وَقِيلَ؛ لِأَنَّهُ حِكَمٌ وَمَوَاعِظُ لَا أَحْكَامٌ وَشَرَائِعُ، (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْكِتَابِيَّةُ إسْرَائِيلِيَّةً) ، أَوْ مِنْ وَلَدِ إسْرَائِيلَ وَهُوَ يَعْقُوبُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، (فَالْأَظْهَرُ حِلُّهَا) لِلْمُسْلِمِ (إنْ عُلِمَ دُخُولُ قَوْمِهَا فِي ذَلِكَ الدِّينِ) أَيْ دِينِ مُوسَى أَوْ عِيسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، (قَبْلَ نَسْخِهِ وَتَحْرِيفِهِ) ، لِتَمَسُّكِهِمْ بِذَلِكَ الدِّينِ حِينَ كَانَ حَقًّا (وَقِيلَ: يَكْفِي) دُخُولُهُمْ فِي ذَلِكَ الدِّينِ، (قَبْلَ نَسْخِهِ) سَوَاءٌ دَخَلُوا قَبْلَ تَحْرِيفِهِ أَمْ بَعْدَهُ، لِتَمَسُّكِهِمْ بِالدِّينِ قَبْلَ نَسْخِهِ، وَالثَّانِي: لَا تَحِلُّ لَهُ مَعَ وُجُودِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَلِانْتِفَاءِ النَّسَبِ إلَى إسْرَائِيلَ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ عُلِمَ دُخُولُهُمْ فِي ذَلِكَ الدِّينِ بَعْدَ تَحْرِيفِهِ، وَنَسْخِهِ كَمَنْ تَهَوَّدَ أَوْ تَنَصَّرَ بَعْدَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فَلَا تَحِلُّ وَكَذَا مَنْ تَهَوَّدَ بَعْدَ بَعْثَةِ عِيسَى عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ فِي الْأَصَحِّ وَكَذَا لَوْ كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي ذَلِكَ الدِّينِ قَبْلَ التَّحْرِيفِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ قَبْلَ النَّسْخِ أَوْ بَعْدَهُ لَا تَحِلُّ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ أَمَّا الْإِسْرَائِيلِيَّة، فَتَحِلُّ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى أَنَّ آبَاءَهَا مَعًا دَخَلُوا فِي ذَلِكَ الدِّينِ قَبْلَ تَحْرِيفِهِ، أَوْ بَعْدَهُ وَقَبْلَ نَسْخِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــSقَوْلُهُ: (أُوحِيَ إلَيْهِمْ) أَيْ الْأَنْبِيَاءِ مَعَانِيهِ فَعَبَّرُوا عَنْهَا بِأَلْفَاظٍ مِنْ تِلْقَائِهِمْ، وَبِذَلِكَ سَقَطَتْ حُرْمَتُهُ فَهُوَ كَالْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ عِنْدَنَا، كَذَا قَالُوهُ وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ عَدَمُ صِحَّتِهِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى إنْزَالًا فَيَبْطُلُ قَوْلُهُمْ: الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ السَّمَاءِ كَذَا، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَقُولُهُ النَّبِيُّ مَعْدُودٌ مِنْ كِتَابِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ إلَّا عَنْ الْوَحْيِ وَلَا قَائِلَ بِهِ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إنْ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَيْهِمْ بِأَلْفَاظٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إمَّا بِالْعَرَبِيَّةِ، كَمَا هُوَ الْأَصَحُّ مِنْ قَوْلَيْنِ وَهُمْ يَعْرِفُونَهَا؛ لِأَنَّهَا مَرْكُوزَةٌ فِي طِبَاعِهِمْ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَلْهَمَهُمْ مَعَانِيَهَا.؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَهَا فَعَبَّرُوا عَنْهَا بِأَلْفَاظٍ تُوَافِقُ قَوْمَهُمْ، وَإِمَّا بِأَلْفَاظٍ مِنْ لُغَتِهِمْ لَكِنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالتَّقْيِيدِ بِهَا فَعَبَّرُوا عَنْهَا بِمَا يُوَافِقُ طِبَاعَ قَوْمِهِمْ، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِمَّا لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. قَوْلُهُ: (وَقِيلَ: لِأَنَّهُ حِكَمٌ) جَمْعُ حِكْمَةٍ، وَمَوَاعِظُ جَمْعُ مَوْعِظَةٍ، وَالْأَقْرَبُ فَرَّقَ الْقَفَّالُ بِأَنَّ فِي الْكِتَابِيَّةِ نَقْصًا وَاحِدًا، وَهُوَ الْكُفْرُ وَفِي غَيْرِهَا نَقْصَيْنِ الْكُفْرَ وَفَسَادَ الدِّينِ، وَاسْتُشْكِلَ الْقَوْلُ بِالْفَسَادِ؛ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: نَزَلَ فَاسِدًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْآنَ وَرُدَّ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَنَحْوَهَا، كَذَلِكَ وَالْجَوَابُ بِأَنَّ تَمَسُّكَهُمْ بِهِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِاتِّبَاعِهِ فِيهِ نَظَرٌ، وَلَا يَسْتَقِيمُ فَرَاجِعْهُ. قَوْلُهُ: (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إلَخْ) صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِسْرَائِيلِيَّة تَكُونُ مِنْ الْيَهُودِ وَمِنْ النَّصَارَى فَانْظُرْهُ. قَوْلُهُ: (إسْرَائِيلُ) مَعْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ وَكَذَا كُلُّ مَا أُضِيفَ إلَى إيَّلَ الَّذِي هُوَ اسْمُ اللَّهِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، نَحْوُ جَبْرَائِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ.
فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ: اسْمُ اللَّهِ بِالْعَرَبِيَّةِ اللَّهُ، وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ إيَّلُ وَآيِيلُ وَإِيلَا، وَبِالسُّرْيَانِيَّةِ إيَّلَا أَوْ عِيلَا وَبِالْفَارِسِيَّةِ خداي وَبِالْحَرْزِيَّةِ تندك، وَبِالرُّومِيَّةِ شمخشا، وَبِالْهِنْدِيَّةِ مشطيشا وَبِالتُّرْكِيَّةِ بيات، وبالخفاجية أغان مُعْجَمَةً بَعْد هَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ، وَبِالْبُلْغَارِيَّةِ تكري، وَبِالتَّغَرْغُرِيّة بِمُعْجَمَتَيْنِ وَمُهْمَلَتَيْنِ بَعْدَ الْفَوْقِيَّةِ، أُلُهْ بِهَمْزَةٍ وَلَامٍ مَضْمُومَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ: (وَإِنْ عَلِمَ) أَيْ بِعَدَدِ التَّوَاتُرِ أَوْ بِعَدْلَيْنِ أَسْلَمَا مِنْهُمْ لَا بِقَوْلِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ الْعَاقِدَيْنِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ. قَوْلُهُ: (دُخُولُ قَوْمِهَا) أَيْ دُخُولِ أُصُولِهَا سَوَاءٌ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ أَوْ الْأُمِّ، قَالَهُ شَيْخُنَا الرَّمْلِيُّ وَالْمُرَادُ اعْتِبَارُ مَنْ تُنْسَبُ إلَيْهِ مِنْ هَؤُلَاءِ، قَالَ شَيْخُنَا: وَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ، وَلَوْ مِمَّنْ بَعْدَهُ، وَفِي ابْنِ حَجَرٍ مُخَالَفَةٌ لِبَعْضِ ذَلِكَ وَتَبِعَهُ شَيْخُنَا فِي شَرْحِهِ ثُمَّ ضَرَبَ عَلَيْهِ بِالْقَلَمِ، وَانْظُرْ لَوْ نُسِبَتْ إلَى أَبَوَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الدُّخُولِ، وَالْوَجْهُ فِيهَا الْمَنْعُ تَغْلِيبًا لِلْمَانِعِ. قَوْلُهُ: (أَمْ بَعْدَهُ) أَيْ التَّحْرِيفِ، وَلَمْ يَجْتَنِبُوا الْمُحَرَّفَ، وَإِلَّا حَلَّتْ قَطْعًا. قَوْلُهُ: (وَلَوْ كَانَتْ) أَيْ غَيْرُ الْإِسْرَائِيلِيَّة وَهَذَا الْمُحْتَرَزُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ قَبْلَ نَسْخِهِ وَتَحْرِيفِهِ، وَسَيَأْتِي أَنَّ الْإِسْرَائِيلِيَّة كَذَلِكَ فِي هَذَا الْفَرْدِ. قَوْلُهُ: (كَمَنْ تَهَوَّدَ) أَيْ وَأُصُولُهُ يَهُودُ أَوْ تَنَصَّرَ، وَأُصُولُهُ نَصَارَى، وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ الْمُنْتَقِلِ وَسَيَأْتِي كَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، فَحَرِّرْهُ، وَقَدْ يُرَادُ هُنَا الْأَعَمُّ، وَالِانْتِقَالُ الْآتِي إنَّمَا هُوَ بَعْدَ وُجُودِ الْإِسْلَامِ. قَوْلُهُ: (بَعْدَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا إلَخْ) ؛ لِأَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلشَّرِيعَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ كَسَائِرِ الشَّرَائِعِ قَبْلَهَا. قَوْلُهُ: (بَعْدَ بَعْثَةِ عِيسَى) ؛ لِأَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِشَرِيعَةِ مُوسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَخَرَجَ بِهَذِهِ الشَّرَائِعِ الثَّلَاثَةِ مَا بَيْنَهَا وَمَا قَبْلَهَا فَلَيْسَ نَاسِخًا لِغَيْرِهِ، فَلَا يُعْتَبَرُ تَمَسُّكُهُ بِهِ، وَلَا عَدَمُهُ فَلَا يَضُرُّ انْتِقَالُهُ مِنْ التَّوْرَاةِ إلَيْهِ، وَبِذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ مَا قِيلَ إنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِزَبُورِ دَاوُد، وَهُوَ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى لَا تَحِلُّ الْمَنْسُوبَةُ إلَيْهِ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ فِيمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ ابْتِدَاءً. قَوْلُهُ: (وَكَذَا لَوْ كَانَتْ إلَخْ) هُوَ الْمُحْتَرَزُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ عَلِمَ، وَهَذَا مَحَلُّ مُخَالَفَةِ غَيْرِ الْإِسْرَائِيلِيَّة لَهَا. قَوْلُهُ: (مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ) أَيْ فِي حَالَاتِ عَدَمِ الْعِلْمِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا أَمَّا مَنْ عَلِمَ دُخُولَ مَنْ تُنْسَبُ إلَيْهِ، مِنْ أُصُولِهَا فِي شَرِيعَةٍ بَعْدَ نَسْخِهَا فَلَا تَحِلُّ كَغَيْرِهَا، وَمَنْ عَلِمَ دُخُولَ مَنْ تُنْسَبُ إلَيْهِ فِي شَرِيعَةٍ قَبْلَ نَسْخِهَا فَتَحِلُّ بِالْأَوْلَى مِنْ غَيْرِهَا. قَوْلُهُ: (أَوْ بَعْدَهُ) أَيْ التَّحْرِيفِ ظَاهِرُهُ سَوَاءٌ تَجَنَّبُوا الْمُحَرَّفَ أَوْ لَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــQلِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] وَقَوْلُهُ لَا مُتَمَسِّكَةٌ إلَخْ. أَيْ وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ تَقْرِيرَهُمْ بِالْجِزْيَةِ. قَوْلُهُ: (لِأَنَّ مَا ذُكِرَ إلَخْ) عِبَارَةُ الزَّرْكَشِيّ عَنْ هَذِهِ؛ لِأَنَّهَا وَحْيٌ، وَلَيْسَتْ بِكَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَتَعْبِيرُ الشَّارِحِ أَحْسَنُ فَإِنَّ الَّذِي قَالَهُ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ. قَوْلُ الْمَتْنِ: (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْكِتَابِيَّةُ إسْرَائِيلِيَّةً) قَالَ الزَّرْكَشِيُّ كَالرُّومِ. قَوْلُهُ: (لِتَمَسُّكِهِمْ بِذَلِكَ الدِّينِ) مِمَّا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الدِّينِ، وَإِنْ تَخَلَّفَ النَّسَبُ إلَى إسْرَائِيلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابِ هِرْقِلَ ": يَا أَهْلَ الْكِتَابِ " وَالرُّومُ لَيْسُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ، فَقَدْ اعْتَبَرَ الْكِتَابَ وَجَعَلَهُمْ مِنْ أَهْلِهِ.